كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”:
ما خلا اتصالات قليلة أقرب ما تكون إلى تناول مسائل هامشية، بالمفرّق، لا تمت بصلة إلى جوهر افتراقهما الحالي، فإن الحوار بين التيار الوطني الحر وحزب الله مقطوع إلى إشعار آخر. كلاهما غير مستعجليْن، ولا يقطعان في الوقت نفسه الخيط الرفيع المتبقّي.
يجزم رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل بأن لا قطيعة بينه وحزب الله، وأن ليس ثمة حوار في الوقت الحاضر. لا يريد القطيعة، ومستمر في تفاهم مار مخايل المبرم بينهما قبل 16 عاماً. بيد أنه لم يعد بالنسبة إليه كافياً الآن. ما أضحى عليه التفاهم أن الزمن والظروف تجاوزاه. في ما مضى أثارا معاً الحاجة إلى تجديده دونما الخوض فيه.
في حسبان باسيل أيضاً أن بنوداً في التفاهم أُهمِلت كلياً كأنها لم ترد فيه كبناء الدولة ومقتضياته، وبنوداً لم تنفذ ولا تزال صالحة إلا أنها تحتاج إلى تجديد التزامها ووضع آليات إجرائية لها، وبنوداً تحتاج إلى مقاربة مختلفة كالاستراتيجيا الدفاعية التي تتطلب إعادة قراءة ومراجعة «فلا تبقى عنواناً». لكنه يجد في ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل «أفضل نموذج لوضع الاستراتيجيا الدفاعية موضع التنفيذ من خلال ما أفضى إليه الترسيم على صعيد إظهار دوريْ كل من الدولة والمقاومة، كما المقاومة والجيش، في التعامل مع هذا الملف وإنجاز الترسيم على نحو عرف كل منهم نطاق موقعه ووظيفته فيه. مَن يقرّر ومَن ينفذ».
أما ما يقلق رئيس التيار، وأظهرت الممارسات الأخيرة العورة المستجدة في مسار التفاهم خلافاً لما نصّ عليه، فهو أن الشراكة بين الحليفين «في خطر الآن والشكوك تحوم من حولها»، في ضوء موقفي التيار والحزب من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وقد أضحت أخيراً، بعد جلسة مجلس الوزراء في 5 كانون الأول، أقرب ما تكون إلى شرخ بينهما، ناهيك بالموقف من انتخابات رئاسة الجمهورية. إلا أن باسيل يحرص على القول إنه يحذّر.
أما المعطيات المنبئة بالشرخ فتكمن في الآتي:
أولها، تلقف باسيل رسالة الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء وفهمه المقصود منها، وهو أن رئيس حكومة تصريف الأعمال يريد أن يحكم بالاستغناء عن وزراء التيار، وفسّر التئام حكومته بأن المتفق عليه سابقاً هو الإجماع على القرارات لا على الانعقاد. يدحض باسيل وجهة النظر هذه، ويقول إن الإجماع المتفق عليه هو على الاجتماع والقرارات معاً. لا جدوى من الإجماع على جلسة لا يقترن التئامها بالاتفاق سلفاً على القرارات.
ثانيها، لن يشارك وزراء التيار في أي جلسة يدعو إليها الرئيس نجيب ميقاتي. ما انتهى إليه اجتماع اللجنة الوزارية الرباعية السبت حدد سقف التيار الوطني الحر: لا اجتماع للحكومة إلا عند الضرورة القصوى التي يصير إلى تقديرها بين الأفرقاء المعنيين. ليست المراسيم الجوالة المقترحة سوى حل موقت يراعي الظروف الاستثنائية الناجمة عن شغور رئاسة الجمهورية. لا مراسيم جوالة مطلقة وفي كل حين، مسندة إلى موافقة استثنائية، بل الأخذ في الحسبان الضرورة الموجبة بما يُعوَّض من خلالها افتقار الحكومة المستقيلة إلى دستورية الاجتماع. ما قاله وزير العدل ممثلاً التيار في اللجنة الرباعية، المنتهية مهمتها سلفاً، تقييد الحالات المتخذة فيها المراسيم الجوالة.
ثالثها، تمسك باسيل بحرفية ما تنص عليه المادة 62 في الدستور، إذ تجعل صلاحيات رئيس الجمهورية في مجلس الوزراء وكالة وليس في الحكومة. ما يقتضي أن يستند إليه المرسوم الجوّال ليس انبثاقه من مجلس الوزراء على جاري حالات مماثلة تكون فيها الحكومة عاملة غير مستقيلة في خلال الشغور، وإنما من موافقة الوزراء المختصين والظروف الاستثنائية التي توجب اتخاذ قرارات تحتمها الضرورة.
رابعها، لحزب الله فضل على انعقاد الحكومة ما دام وزيراه يضمنان اكتمال نصاب ثلثي انعقاد مجلس الوزراء. ساء باسيل أن يخلّ الحزب بما كان اتفق عليه سابقاً مع التيار قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، في حوار مباشر بينه وباسيل، في الطريقة المفترض إدارة حكومة الشغور في ما بعد. ما اتفقا عليه حينذاك استعادة تجربتهما في حكومة الرئيس تمام سلام بين عامي 2014 و2016، وكانا تفاهما كما مع سائر مكونات حكومة سلام آنذاك، على توقيع الوزراء الـ24 مراسيمها وقراراتها. أضف اطلاع الوزراء الـ24 سلفاً على جدول الأعمال ما دام هذا البند في صلب الصلاحيات الدستورية المعطاة إلى رئيس الجمهورية، وأضحت بحكم الشغور في عهدة مجلس الوزراء وكالة.
أعاد الطرفان تأكيدهما الموقف نفسه أخيراً عشية الشغور بأن لا يصدر قرار لا يوقعه الوزراء الـ24 ما داموا جميعاً مجلس الوزراء المتسلم وكالة صلاحيات رئيس الجمهورية، ولأن الوكالة كلٌ لا يتجزأ. ما حدث بإخلال حزب الله بالمتفق عليه سابقاً، لم يجد التيار تفسيراً له سوى مجاراة ميقاتي والانقلاب على حليفه. ما يرومه الحزب كمبرر لانعقاد مجلس الوزراء وهو ملاقاة الحاجات الملحة للبنانيين، يعثر عليه بسهولة في المراسيم الجوالة تبعاً للضرورة المفترضة وليس الخوض في جدول أعمال فضفاض.
خامسها، لا يخفي باسيل اعتقاده بأن المشكلة الدائرة من حول الحكومة أضحت أكبر من مقدرة تفاهم مار مخايل على تذليلها لارتباطها بمسائل باتت تتجاوز فريقي التفاهم. جانب أساسي منها ميثاقي في رأيه، ناجم عن إحلال رئيس مجلس الوزراء توقيعه مكان توقيع رئيس الجمهورية المنتهية ولايته، فيما يفترض أن يعود التوقيع إلى أولئك المنوط بهم وكالة صلاحية التوقيع المعهودة إلى الرئيس أي الوزراء الـ24. لزم حزب الله الصمت حيال هذه المخالفة كما لو أنه يضمر موافقته عليها.
سادسها، لا رابط مباشراً بين الخلاف مع الحزب على حكومة ميقاتي والخلاف الآخر معه على انتخابات رئاسة الجمهورية التي خطّ التيار أخيراً أسلوباً مختلفاً في التعاطي مع الجلسات المتتالية. بادئ ذي بدء اتفق مع حزب الله على الاقتراع بأوراق بيض إلى أن يُتفق على مرشح. مذ تردّت علاقة الحليفين ترجمت الجلستان الأخيرتان لانتخاب الرئيس انفصال التيار عن الحزب في الاقتراع بالأوراق البيض، عبّر عنه تراجع أساسي ومهم لأرقامها بأن تدنت في الجلستين اللتين تلتا انعقاد الحكومة من 52 ورقة بيضاء في الجلسة الثامنة إلى 39 ورقة بيضاء في الجلسة التاسعة فإلى 37 ورقة بيضاء في الجلسة العاشرة. ما لا يخفيه باسيل أنه وزّع أصوات كتلته النيابية بين أوراق بيض ومسميات مختلفة معبّراً بذلك – وفي الوقت نفسه رسالة معاكسة إلى حليفه – عن عدم اقتناعه بجدوى اللعبة المستمرة واختياره طريقة أخرى لإبراز موقفه.
المؤكد الذي يجهر به باسيل أن حزب الله تبلغ منه رفضه القاطع وصول النائب السابق سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، وتالياً أي خوض في تفاهم على تأييده أو فرضه عليه حتى. الموقف نفسه، في معزل عن حزب الله، ينطبق على قائد الجيش العماد جوزف عون الذي ينظر إليه على أنه «قائد الانقلاب» لا قائد الجيش، في إشارة إلى تحميله مسؤولية تغاضيه عما آلت إليه البلاد وعهد عون منذ 17 تشرين الأول 2019. لا يحول ذلك دون قول باسيل إذا أرادوا أحدهما: «اذهبوا إليهما من دوننا. لسنا وحدنا في البلد». أما ما يصر على مناوأته، فهو أن «يُفرض على المسيحيين اختيار رئيس للجمهورية لا يحظى بغطاء مسيحي».