كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
… وها نحن قد غرقنا في الزمن الغريب العجيب الذي أصبحنا فيه جميعنا صيارفة نلهث وراء ««صيرفة»» ويلهث الصيارفة المتجولون وراءنا، في حين أن من بيدهم الربط والنهي يغرقون في سباتٍ عميق سحيق بعيد عن مصالحنا ويلوذون وراء مصالحهم البحتة. في المختصر المفيد أهلاً وسهلاً بكم في بلد لم يبقَ فيه من ودائعنا إلا ما تخزّنه ذاكراتنا من مشاهد يشيب لها شعر الرأس
.
ذهبت مع ولدها الى مجمّع تجاري. إختارت هدية ميلاده وقبل أن يدخل غرفة القياس «بحبشت» في حقيبتها عما بقي معها من رصيد نقدي فرأت عملة صعبة. سألت عن تسعيرة صرف الدولار في المتجر فقيل لها أقل من السوق بألف ليرة. نظرت في عيني طفلها ونظرت في عيني البائعة وقبل أن تتفوه بكلمة قالت لها العاملة على الصندوق: مهلاً مدام… واتصلت واتساب… وقالت: ثوان ويصل الصرّاف. فليجرّب ولدك البنطال في هذا الوقت. ثوانٍ معدودة ودخل الى غرفة القياس شاب، محترماً يبدو، بيده حقيبة. جلس ينتظر. وحين فرغ ابنها من القياس ووقف معجباً، مزهواً، بما يرتديه قال الشاب للمدام: سعر الدولار اليوم 42 ألف ليرة لكن، إكراما لعينيك، سأصرفه لك باثنين وأربعين ألفا ومئتي ليرة. وافقت على الفور وخرجوا جميعا فرحين. إنه صراف المتجر المتجول.
إدي في الخدمة
أصبح في كل متجرٍ في لبنان، بدل جهاز الصرف الآلي، شباب صيارفة متجولون. في أحد المجمعات التجارية شاب آخر يقول إن اسمه إدي يدور بين الزبائن وبيده «شنطة». نراه يناقش الزبائن وتحديداً «الزبونات» حول معدل الصرف. ويكفي أن ندق له ليصل إلينا في أي طبقة ومحل نكون. هو صراف المتجر. ندق له قبل وصولنا الى سيتي المجمع التجاري إن كان موجوداً فيجيبنا: بالتأكيد، أنا حاضر 12 ساعة في اليوم. نسأله عن تسعيرة الصرف فيجيب: أكثر من سعر الصراف في الخارج وحبة مسك. نسأله: ماذا يضمن أن العملة التي سيعطيها لنا غير مزورة. فيجيب: بالأمانة مدام ولو… نصدقه؟ نسأل أنفسنا: وهل في البلد ضمانة؟ المصارف أكلت مالنا وجنى العمر فلماذا نخشى من شابٍ يتركه المتجر يجول ويصول؟ نمر أمام آلات الصرف الإلكترونية.
لا حسّ ولا خبر في إدارة المتجر. لا أحد يملك جواباً شافياً عن سبب سماح سيتي مول لشابٍ صيرفي متجول أن يجول ويصول كما يحلو له، وشعار: All you need to know before you go الذي يرفعه المتجر أصبح فارغاً. أحد العارفين بالبيضة وتقشيرتها يخبرنا: أصبح لكلِ متجر صرّافوه المتجولون. إنهم صيارفة المتجر. فهل أصبحت المتاجر في لبنان تشارك هي أيضا في الصيرفة؟ إحداهن تبتسم وهي تخبرنا عن تجربة مرّت فيها: البارحة، قلتُ لزوجي إنني أحتاج الى مليون ليرة لبنانية. كنت واقفة على قارعة الطريق. سألني: هل تحملين دولارات؟ أجبته: نعم. سألني عن نقطة وجودي بالتحديد وطلب مني الإنتظار دقائق. أقل من خمس دقائق وصل دراج وقال لي: حضرتك تحتاجين الى عملة لبنانية؟ أجبته وأنا مذهولة: نعم. قال لي: أنا الصرّاف. أعطيته خمسين دولاراً فأعطاني مقابلها عملة لبنانية. وقال لي: شكراً قبل أن أشكره وغادر. إنهم صيرفة آخر زمان.
مرحبا قانون!
كل شيء يتغيّر… ونحو الأسوأ… هل علينا أن نسأل عن قانون الصيرفة؟ من الغباء ربما فعل ذلك في بلد تشبه فيه القوانين نسيج العنكبوت تقع فيه الطيور الصغيرة وتعصف به الطيور الكبيرة. في كل حال، نكتفي بما جاء في المادة الأولى من قانون تنظيم مهنة الصرافة في لبنان: يحظر على غير المصارف والمؤسسات المالية ومؤسسات الوساطة المالية المسجلة لدى مصرف لبنان إمتهان أعمال الصرافة إلا بعد الحصول على ترخيص مسبق من مصرف لبنان. هي مادة سقطت عن «بكرة أبيها».
فلنترك نقابة الصيارفة في لبنان نائمة. ولنسأل الصيارفة في المناطق، لا سيما في طرابلس التلّ وفي صيدا، عن كل الصيارفة المتجولين الذين نبت على الألسنة شعر وهم يتكلمون عنهم. من بيروت وصولاً الى الزهراني كل مترين يوجد صرّاف متجول. في صيدا يتذكرون حين نسألهم ذاك الطفل، إبن السابعة عشرة، شحاده رجب، الذي كان يعمل صرافاً متجولاً لمصلحة شخص نافذ. خطف وقتل وسرق. كان واقفاً وبيده الملايين وانتهى جثة متحللة. وين الدولة؟ سؤالٌ أصبح سخيفاً.
فلنسمع شيخ الصرافين الشرعيين في صيدا وهو يتكلم عن الظاهرة- الآفة: «شباب الزواريب والأزقة والعاطلون عن العمل اصبحوا في عاصمة الجنوب صيارفة، وكلما تمرّس أحدهم أكثر في المهنة فتح على حسابه واستقدم بدوره شباناً يوزعهم تحت الجسور وعند المفارق وعلى الأوتوسترادات. ويستطرد بالقول: ضروب الإحتيال كثيرة. كل رزمة يفترض أن تكون عشرة ملايين ليرة، لكن ما يحصل أن هؤلاء يعطون تسعة ملايين ويلوذون بالفرار على دراجة نارية. وهناك صيارفة متجولون ليسوا زعراناً لكنهم يقبضون عملة مزورة ويوزعونها غير مدركين ذلك. وهناك شبان يقفون عند الشوارع المكتظة أمام محال الصيارفة ويستبدلون العملة لمواطنين يبقون في مركباتهم مقابل ثلاثين ألف ليرة. وهناك صيارفة متجولون بات لهم زبائنهم يقصدونهم يومياً بدل الدخول الى محال الصيرفة. وهناك متاجر قررت هي أيضاً أن تتقاسم الربح من خلال «توظيف» صيارفة متجولين».
تعددت الأسباب والنتائج، في ظاهرة غريبة، تتفشى مثل الفطر. والأسوأ، أن هؤلاء الصيارفة غير الشرعيين يبقون على الطرقات حتى منتصف الليالي، في أوقات بات يخاف فيها المواطنون، في العتمة الدامسة، من التجول خوفاً من سرقة أو اعتداء. فكيف لهؤلاء التأكد من أن العملة صحيحة أو مزورة؟ سؤالٌ لا يجد له الصيارفة الحقيقيون جواباً. ويقول أحد هؤلاء: «يفترض أن يأخذ كل صيرفي هوية الشخص الذي ينوي استبدال عملة بأخرى. هذا شرطٌ في نظام الصيرفة. فإذا طلبنا تذكرة الهوية يضحك علينا الناس ونخسرهم. أحد الرجال المسنين قال لي حين طلبت ما يُعرّف عنه: تجاوزتُ سن السبعين ولم أحمل يوماً تذكرة. وخرج الى الشارع ليصرف عملته». يبدو أن الناس يستسهلون هم أيضا تجاوز القانون. ويا حسرة من يحاول أن يتمسك به في اللادولة.