كتب محمد دهشة في “نداء الوطن”:
تحافظ قلّة من العائلات الصيداوية، والتي لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة، على صناعة المراكب البحرية بأنواعها المتعدّدة وأحجامها المختلفة للصيد والسياحة والرياضة معاً، في ورش كبيرة لا تتوقّف عن العمل داخل حرم ميناء الصيادين وعلى بعد عشرات الأمتار حيث ترسو مئات المراكب، لتحفظ إرثاً تراثياً في مسيرة تمتدّ إلى عقود طويلة.
فموقع صيدا البحري ومهنة صيد الأسماك وصناعة المراكب البحرية، مشهدية ثلاثية الأبعاد، لكنّها متلازمة ومتكاملة فرضت على سكّانها أنماطاً معينة ليعتاشوا منها، وقد شكّلت ذاكرة جماعية لأبناء المدينة الذين تفتّحت عيونهم على البحر والصيد ومخاطره وحكاياته الحلوة والمُرّة التي لا تنتهي، وعلى الصناعة التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد وحافظوا عليها سبيلاً للعيش الكريم وعنواناً للتراث.
عائلة العقّاد واحدة من هذه العائلات التي حافظت على المهنة، الى جانب عائلتيْ سنبل وعطية على الرغم من أنّ التقنيات قد غيرَت مراكب الصيد نفسها، إلّا أنّها لا تزال متواضعة وبسيطة. المعلم ناصر أحمد العقّاد (59 عاماً)، ورث صناعة «الفلوكة» عن والده الفلسطيني الذي كان يعمل في فلسطين لكنه هُجّر منها إلى لبنان قسراً عام النكبة 1948، ليبدأ رحلة جديدة من الحياة والعمل.
داخل منشرته التي تفوح فيها رائحة الخشب المقطوع حديثاً مع النشارة، وإلى جانب الهيكل العظمي لمركب في مراحله الأولى، يجلس ناصر وهو من الجيل الثالث للعائلة على كرسي بلاستيكي بخلاف كل ما حوله، يلتقط أنفاسه بعد ساعات من العمل المضني، يومئ لمساعديه، شقيقه وابنه أحمد، للإستراحة قليلاً، ويقول لـ»نداء الوطن»: «إنّها صنعة حلوة ونادرة في لبنان، تعلمتها من والدي العام 1975 وكان طموحي أن أصبح معلّماً وحقّقت هدفي وحلمي»، قبل أن يضيف: «نحن ثلاثة أخوة ولنا محترفات في صيدا والجية والصرفند لصناعة المراكب على أنواعها. ما زلنا نعتمد أسلوب الأجداد في صناعة «الفلوكة» ولكنّنا طوّرنا الشكل والخطوط العامة لحجمها لنلبّي متطلبات السوق كافة، وأصبح لدينا آلات حديثة مثل منشار البنزين وفارة الكهرباء ممّا يسهّل عملنا، بعدما كانت المراكب تُصنع يدوياً وتحتاج إلى قوة وجهد كبيرين وتستغرق وقتاً طويلاً».
اليوم، تستغرق صناعة المركب نحو شهرين، ولكنّ تصنيعه لا يتم إلّا بناء على طلب مسبق، يشرح العقاد رحلته من الألف إلى الياء: «نشتري الخشب وهو عادة من الكينا أو الصنوبر أو السرو، نتركه لفترة حتى يجفّ من المياه والبلل، ثم نقطعه بمنشار البنزين، ونبدأ بتفصيله على الآلات الكهربائية ونقوم بنصب الهيكل ونستخدم خشب الكينا للقاعدة والأضلاع، والسرو والصنوبر للجسم الخارجي، ونبدأ بجمعه تدريجياً إلى أن يصبح متكاملاً».
وتتعدّد أشكال المراكب بين «المبطّنة» وهي مجوّفة ومرفوعة المقدّمة ولها مثل القرون يستخدمها صيادو الاسماك في صيدهم قرب الشاطئ وفي عمق المياه، «السبنك» وهو نموذج مصغر عن المبطّنة، «اللانش» وهو مركب كبير مقفل وله غرف وسريع ويستخدم عادة للرحلات الطويلة، «الزحّافة» ويكون حجمه صغيراً أو متوسطاً، إضافة إلى «الشختورة» للنزهات ونقل العائلات و»الحسكة» وتستعمل للرياضة البحرية»، يقول العقاد: «أنا متخصصٌ في صناعة نوعين منها هما «اللانشات والبطنية». لكن «اللانشات» أكثر ثباتاً من المبطنة». وتتفاوت أسعارها حسب أحجامها ولا تقّل عن 7 آلاف دولار وتصل الى 15 ألفاً وفق طولها، كل متر تقريباً بألف دولار، إرتباطاً بإرتفاع أسعار الأخشاب التي تستورد من الخارج وبالعملة الخضراء، ولكنّها ضرورية ولا يمكن الإستغناء عنها وعن اللوازم التي تستخدم، يضيف العقاد: «عمر الخشب لا نهاية له حتى بعد 25 عاماً، لكن المركب بحاجة إلى صيانة دورية ومنتظمة، صحيح أنّ الخشب لا يتضرّر غير أنّ المسامير تحتاج إلى إستبدال».
لم يندم العقاد على تعلم المهنة ولا على تعليمها لأحد أبنائه، لكنه بات مسكوناً بهواجس الأفول، «فالوضع الاقتصادي لا يُشجّع وأخاف على هذه المهنة من الزوال، لم يعد الطلب على المراكب كما كان سابقاً، فالأزمة بدّلت الأولويات وأثّرت على عمل الصيادين خاصة مع تراجع الثروة السمكية وهذا ما ينسحب على عملي. إلا أنني لا أذكر يوماً توقّفت فيه عن العمل، فأنا أعمل دائماً في صُنع المراكب وصيانتها وتجديدها»، آملاً في أن «تتحسّن الظروف وتلتفت الدولة لهذه المهنة التي تشكّل تراث المدينة».