يعكس ارتفاع وتيرة حثّ اللبنانيين على المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة مدى المخاوف من التأثيرات المباشرة لارتفاع نسبة المقاطعة على النتائج التي سوف تفرزها صناديق الاقتراع.
والمقاطعون للانتخابات النيابية المقبلة أنواع وألوان: المستاؤون، المحبطون، “الانتقاميون”، وغير المهتمين.
وتمتلئ جعبة هؤلاء بالأسباب الموجبة والخلفيات والدوافع، بدءاً بطبيعة النظام المُستعصي على الإصلاح وتجذّر الطبقة السياسية التي يستحيل تغييرها، مروراً بضرورة تلقين “الحلفاء المتمرّدين” دروساً مؤلمة، وتثبيت الحاجة إلى هذا الزعيم أو ذاك، وصولاً إلى الإيمان العميق بأنّ الديموقراطية في ظلّ سطوة السلاح غير الشرعي لا قيمة لها، لأنّها مجرّد وسيلة من وسائل إلباس كل ما هو غير دستوري أقنعة شرعية.
من المكابرة وصف هذه الخلفيات بأنّها مجرّد “ترّهات”، إذ إنّ كلّ وجهة منها تعكس واقعاً لبنانياً أليماً، وتحمل حقائق مثبتة وتنطلق من تجارب مرّة.
في مقابل هذا التسليم بصحّة الحجج التي ترفعها أنواع وألوان المقاطعين، فإنّ الإنصاف يقتضي الإقرار بأنّها تفتقد الحكمة التي تشكّل حجر الزاوية في العمل السياسي عموماً، وفي العمل الوطني خصوصاً.
افتقاد نوعية المقاطعة الراهنة للانتخابات النيابية الحكمة، لا يتّصل بأحقية المبرّرات التي تقدّمها، بل بفوضوية ممارستها، ذلك أنّ المقاطعة، إذا لم تتجسّد في تيّار يتمتّع بقيادة ولم تُشكّل تحالفاً وتُحدّد أهدافاً وتحمل رسالة، تُصبح، بلا أيّ تأثير، مثلها مثل مياه النهر التي تستسلم للبحر.
وكمثال سريع على ذلك، فإنّ المقاطعة حتى تُنتج مفاعيلها، يجب أن تبذل قيادتها الواضحة جهوداً كبيرة لإنجاحها، من دون أن تكتفي بركوب موجة المحبطين وغير المكترثين الذين كانت قد وصلت نسبتهم في انتخابات عام 2018 إلى حوالي 52 بالمئة، وأن تُحدّد أهدافها، كاعتبار المقاطعة عملية تهدف إلى رفع الصوت ضدّ الأسس التي يقوم عليها النظام والموبقات التي يحميها في مقابل الانحرافات التي تُعزّزه.
ولأنّ كل هذا غير متوافر، فإنّ المعنيين بموقع لبنان المستقبلي، في ضوء الكوارث التي يعانيها، والمصير الآيل إليه في حال ترسّخ المسار الحالي الناجم عن الأكثرية النيابية التي حصل عليها “حزب الله” و”أعوانه” في الانتخابات النيابية السابقة، يدرجون المقاطعة في قائمة “العبثية”، إذ إنّها لن تقدّم بل ستؤخّر، ولن تُنقذ بل ستزيد الظلام اسوداداً، ولن تُعيد الأمل بل سترفع مستوى القنوط.
ويدرك الجميع أنّ نتائج الانتخابات النيابية لا تُنجز بذاتها ووحدها الإنقاذ المرجوّ، ولكنّها كفيلة من جهة أولى، بمنع تشريع الشواذ، وقادرة من جهة ثانية، على إيصال رسالة واضحة إلى المجتمعين العربي والدولي بأنّ اللبنانيين بأكثريتهم مختطفون، وبأنّ توجّهات السلاح غير الشرعي تتناقض وتوجّهاتهم.
وهذان الهدفان، على تواضعهما، يجعلان دعاة التوجّه إلى صناديق الاقتراع، بكثافة، أكثر إنتاجية وطنياً من دعاة المقاطعة الحاليين.
وليس خافياً على أحد، في ضوء المعطيات الحالية، أنّ المشاركة الشعبية الكثيفة في الانتخابات النيابية، من شأنها أن تنعكس سلباً، في المحصّلة الوطنية العامة، على “محور الممانعة”، إذ إنّه في الواقع يواجه تيارين كبيرين آخرين يتقاسمان معاً، بالحدّ الأدنى، إرادة التغيير، وهما: “القوى السيادية” التي ينسب بعضها نفسه إلى “ثورة الأرز”، وقوى المجتمع المدني التي ينسب بعضها مشروعيته إلى “ثورة” 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019.
وعليه، ينصبّ اهتمام داعمي هاتين القوّتين الوطنيتين، وهم من أبرز المرجعيات الروحية والسياسية في لبنان، على تقليص حجم دعاة المقاطعة.
ولكنّ هؤلاء الذين يجدون مصلحة وطنية في المشاركة في الانتخابات النيابية، يعانون نقصاً في الدينامية السياسية، إذ إنّهم، حتى تاريخه، يكتفون بإطلاق كلام كبير من على المنابر، من دون أن يسجّلوا أيّ تواصل فعّال مع رموز لهم تأثيرات كبيرة على تقليص حجم المقاطعة، الأمر الذي يتيح لمن له مصلحة في “الاصطياد بالمياه العكرة” بثّ انطباعات توهم العامة بأنّ المعركة الانتخابية ليست بين توجّهات كبرى على صلة بـ”وجودية” لبنان، بقدر ما هي معركة أحجام بين بعض رموز المقاطعة، من جهة، وبين بعض رموز المشاركة، من جهة أخرى.
إنّ أجواء الأكثرية الشعبية الناجمة عن تراكم التجارب في السنوات الأربع الأخيرة، لا تصبّ مطلقاً في خدمة الترويج المستمر لحسم “حزب الله” و”أعوانه” نتائج الانتخابات النيابية لمصلحتهم.
الشواهد على ذلك كثيرة، بدءاً بدور “محور الممانعة” في نسف “بلطجي المنهج” لـ”ثورة” 17 تشرين الأوّل 2019 واغتيال لقمان سليم وحماية قتلة رفيق الحريري، مروراً بالعواصف التي أثارها ضد استمرار التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، وصولاً إلى تأثيراته الكارثية على علاقات لبنان العربية والخليجية والدولية، وتالياً على تدفّق المساعدات التي يحتاجها الاقتصاد اللبناني كما الشعب اللبناني.
وقد عبّر كثير من اللبنانيين عن موقفهم المناهض لـ”محور الممانعة”، وفق الشواهد التي سجّلتها الذاكرة اللبنانية الحيّة في شويّا وخلده والطيونة وغيرها.
ولهذا، فإنّ الخبراء الانتخابيين الذين تصنّفهم مراكز الأبحاث الدولية في خانة “الموثوقية”، يؤكّدون أنّ نتائج الانتخابات النيابية تميل لمصلحة “محور الممانعة” كلّما انخفضت نسبة المشاركة، على المستوى الوطني، في الانتخابات النيابية، وهي تميل لمصلحة “السياديين” وقوى المجتمع المدني، كلّما انخفضت نسبة المقاطعة.
المصدر : النهار العربية