كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
أكبر من صرخة خرجت من أكثر من حنجرة لتنذر بصفعة تحاك لحق المواطن الدستوري بالحصول على جواز سفر وحقه بالسفر ساعة يشاء. مواطنون حقوقيون وأصحاب وكالات سفر يصرخون مطالبين بإيجاد حل لمشكلة جوازات السفر التي باتت تعيق حرية اللبناني وتقيده رغماً عنه داخل جدران الوطن الخانقة. وفي المقابل صرخة حسم يطلقها الأمن العام اللبناني بوجه كل من يطلب جوازاً لغير حاجة مستعجلة مختطفاً دور سواه ومانعاً الجوازات عن محتاجيها الحقيقيين. بين منطق المواطن ومنطق الدولة يلامس لبنان مرة جديدة حدّ اللامنطق.
منذ مطلع العام 2021 بدأت تلوح في أفق الأزمات اللبنانية المتراكمة أزمة الحصول على جواز سفر، إذ كان الطلب على الجوازات غير مسبوق وفاق قدرة مؤسسة الأمن العام على تلبية الطلبات التي تجاوزت أحياناً 8000 جواز في اليوم الواحد، وعانى المواطنون الأمرّين في طوابير الانتظار الطويلة لكنهم كانوا يتمكنون إن استطاعوا الصمود والوصول فجراً أمام مراكز الأمن العام، من الحصول على رقم يخولهم تقديم المستندات المطلوبة والحصول على الجواز ولو بعد فترة. الأمن العام حاول إيجاد حل لهذه المعضلة عبر إطلاق منصة تخفف على المواطنين عبء الانتظار وتتيح لهم الحصول على موعدهم أونلاين، لكن المنصة لم تأت ثمارها المطلوبة وفي خلال ساعات فقط حجز أكثر من عشرين ألف موعد كما حُجزت المواعيد حتى ثلاثة وأربعة أشهر مقبلة، ما أعاد قدرة الأمن العام الى نقطة الصفر وحتّم على من يحتاجون الى جواز فوري الانتظار كسواهم.
هنا يقول مصدر مسؤول في الأمن العام لـ»نداء الوطن» كان لا بد من وضع جدول أولويات وتنظيم آلية منح الجوازات فصار يحق الحصول عليه لمن يملك أسباباً موجبة، مثل العمل او الدراسة او متابعة علاج طبي في الخارج او حيازة المواطن على سمة صالحة ملصقة على جوازه، أو إقامة صالحة في الخارج أو حيازته على موعد سفارة مثبت ضمن شهر من تاريخ تقديم الطلب.
ويؤكد المصدر ان هذه الشروط التي وضعها الأمن العام ليست تعجيزية ولا تهدف كما أشيع الى الحد من حق المواطنين الدستوري بالسفر، بل الى تأجيل الحصول على الجواز لكل شخص لا يحتاج إليه ولو اضطره ذلك الى الانتظار لأشهر. ويأتي هذا الإجراء بعد ان تبين للأمن العام أن 70% من الذين استحصلوا على جوازات سابقة لم يستخدموها للسفر بل تعاملوا معها كسلعة خزنوها قبل ارتفاع كلفتها، أو تحسباً لطارئ وتم ّاصدار نحو600 الف جواز خلال الفترة الماضية بينهم 400 الف شخص لم يسافروا ولم يستعملوا الجواز. كما أن الإقبال الكثيف على الجوازات كان له تبريره إذ إن الجوازات البيومترية التي بدأ العمل بها في العام 2017 انتهت مدة صلاحيتها التي امتدت عند الكثيرين على خمس سنوات وصارت تتطلب تجديداً. كما ازداد الطلب على الجوازات بفعل ارتفاع عدد الطلاب الهائل الذين توجهوا الى الخارج للدراسة او حتى للعمل وطلب أهلهم لجوازات ليستطيعوا زيارتهم.
هذا الإقبال الكثيف فاق قدرة الأمن العام على إنجاز الجوازات هو الذي كان يستطيع بقدراته الطبيعية ومع العمل بطاقة قصوى تلبية 3000 الى 3500 جواز يومياً. وفي عملية حسابية بسيطة يقول المصدر ان كل طالب جواز يحتاج لتقديم أوراقه وتصويرها الى ما يقارب النصف ساعة، وإذا ضربنا هذا الرقم بخمسة وهو عدد الموظفين وعلى ثماني ساعات دوام في اليوم، يتبين ان قدرة المركز يستحيل أن تلبي الطلب المتزايد على الجوازات ولا يمكن إصدار 10000 جواز سفر في اليوم.
جدولة الأولويات
مؤخراً والى جانب عمل المنصة برزت مشكلة المضطرين للحصول على جواز فيما مواعيدهم متأخرة جداً وقد وضع الأمن العام في تصرفهم رقماً ساخناً هو 1717، ليتم من خلاله النظر في طلبهم وتقرر إثر ذلك أن تكون الأحقية في المواعيد لهؤلاء وأن من ظروفه أقوى من الآخرين يمر قبلهم وهو أمر طبيعي ومبرر ولا يأخذ أحد مكان أحد. ويرى المصدر أنه من المفترض بعد تمرير كل هذه الحالات الطارئة أن تستقيم الأمور بعد ذلك وتصبح المواعيد منطقية، وان اضطر المواطنون للانتظار لشهر أو اشهر كما في كل بلدان العالم للحصول على جوازهم.
هذه الجدولة للأولويات ووضع شروط صارمة للحصول على جواز رأى فيها بعض الناشطين الحقوقيين حدّاً لحرية التنقل التي منحها الدستور اللبناني لكل مواطنيه، حتى أن البعض يهيؤون لرفع دعوى طعن ومخاصمة الدولة أمام مجلس شورى الدولة باسم كل متضرر من احتجاز الأمن العام لجوازه ومنعه عنه.
على هذه الإدعاءات يرد المصدر المسؤول في الأمن العام قائلاً: كان ثمة قرار بمنع إعطاء الجواز لربما كان الأمر مفهوماً أو مبرراً، لكن الأمن العام يؤجل العملية وينظم الأولويات تسهيلاً لشؤون المواطنين ولا يمنع أحد عن حقه الدستوري. ويتساءل أين هم هؤلاء الحقوقيون من المصارف التي التهمت ودائعهم؟ لم لا يتّحدون لرفع الدعاوى ضد المصارف؟
وجهة النظر الرسمية هذه ربما يكون لها ما يبررها فاللبناني الذي ينتظر في صفوف طويلة في الخارج للحصول على أية خدمة يصعب عليه الانتظار في وطنه او إعطاء دوره لمن هم أكثر حاجة منه. ولكن هل يتوقف الأمر على الأولويات أم أنه أبعد من ذلك؟ ويطال عجز الدولة عن تأمين المبالغ المطلوبة بالعملة الصعبة لطبع الجوازت التي حسبما يقال نفدت كمياتها وبات من الصعب الحصول على غيرها؟
بعيداً عن هذا الجدل القائم حول قدرة الدولة المالية على تأمين الجوازات فإن التأخير في إصدارها يطرح إشكالية كبيرة، ولبنان اليوم على عتبة موسم أعياد الفصح والفطر وعطلة صيفية كانت مكاتب السفر تعول عليها لإعادة إطلاق الحركة السياحية نحو الخارج.
السياحة في خطر
نقيب أصحاب مكاتب السفر والسياحة جان عبود يؤكد لـ»نداء الوطن» ان سياسة الجوازات هذه سوف يكون لها تأثير كبير على حركة السياحة وسفر اللبنانيين نحو الخارج، لا سيما أن دولاً كثيرة لا تقدم تأشيرة دخول لأصحاب الجوازات التي تنتهي مدة صلاحيتها بعد ثلاثة او ستة أشهر. « لقد درسنا مع الأمن العام إمكانية إيجاد مخرج لإنقاذ الموسم السياحي واتصلنا بمصادر فيه لنبلغ بأن القصة ليست بيد الأمن العام بل أنهم ينفذون قراراً من مجلس الوزراء» وتابع:»نحن في أزمة وقطاع الطيران كما وكالات السياحة والسفر تمر بوقت عصيب. قبل العام 2019 كان يباع ما يقارب 65 مليون دولار شهرياً تذاكر سفر الى الخارج ! وتراجع الرقم الى 3 او 4 ملايين في العام 2020 وهذه السنة نأمل بالوصول الى عتبة 12 مليوناً شهرياً».
الأرقام مذهلة وتشير الى فلتان مالي رهيب كان يعيشه اللبنانيون ويخرجون الى البلدان المجاورة مبالغ طائلة بالعملة الصعبة كان يمكن أن يتم إنفاقها في لبنان. حسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين قدر عدد اللبنانيين الذين كانوا يغادرون لبنان الى الخارج بنحو 350 الفاً، لاسيما خلال فترة الاعياد وأهمها رأس السنة وخلال فصل الصيف وكانت الوجهات الأساسية تركيا ومصر وقبرص واوروبا، ومعدل انفاق الشخص الواحد نحو 800 دولار كمتوسط اي نحو 280 مليون دولار وثمة من يبالغ ويقدر الانفاق بـ2 مليار دولار سنوياً. اكثرية المسافرين قبل 2019 كانت تتجه الى مصر وتركيا حيث الكلفة 300 دولار للشخص ولكن كمتوسط بين مصر وتركيا وقبرص واوروبا وشرق آسيا تصبح 800 دولار، لأن الكلفة هناك تصل الى 1200 للشخص. اليوم نزل الإنفاق الى أقل من 35 الف دولار سنوياً والاكثرية باتوا يتوجهون الى زيارة الاولاد والاهل في الخارج بدل السياحة.
نسأل شمس الدين إن كانت إجراءات الأمن العام تهدف الى الحد من هذا النزف لكنه لا يرى علاقة بين الأمرين بل لإن إجراءات الأمن العام كانت ضرورية وحيوية.
من جهته يوكد النقيب جان عبود أن لبنان مر بفترة ذهبية قبل العام 2019 حيث كان يتم تسيير 75 رحلة شارتر أسبوعياً الى مصر وتركيا واليونان غير الرحلات التجارية العادية.
«اليوم كل ذلك تراجع بشكل دراماتيكي ولكن لا يزال ثمة أفراد يقصدون مصر وتركيا أما اليونان فلم تعد أسعارها بمتناول اللبنانيين. نفكر بتسيير رحلات شارتر الى شرم الشيخ ولا زلنا قادرين على بيع التذاكر للرحلات القصيرة المدى، لكن لا شك أن القطاع بأكمله تأثر بشكل كبير بالأزمة المالية من جهة خاصة ان كل بطاقات السفر تدفع بـ»الفريش موني» واليوم بأزمة الجوازات».
فهل هذا هو السبب الحقيقي وراء احتجاز الدولة للمواطنين ام أنه نتيجة حتمية للبهورة التي عاشها اللبنانيون سابقاً، ولسوء السياسات التي لم تصغ يوماً الى تحذيرات الخبراء الاقتصاديين من خروج أموال طائلة بالعملة الصعبة من لبنان؟ باختصار بات اللبناني المحروم من السفر لحاجة او لرغبة يردد المثل القائل: «يا سراج وشمعة يا عالعتم جمعة» قد تمتد لسنوات وسنوات.