كتب د.مصطفى علوش في الجمهورية
«وجاهلٌ مده في جهله ضحكي
حتى أتَته يد فراسة وفم
إذا رأيتَ نيوب الليث بارزة
فلا تظننّ أنّ الليثَ يبتسم»
المتنبي
بكاء التماسيح عبارة شائعة في الأدبيات السياسية والاجتماعية. بحسب قدامى المؤرخين الإغريق، كان هذا التعبير متداولاً في الثقافة الفرعونية، التي كانت على تماس دائم مع تماسيح النيل العظيمة. كما أن الإله الفرعوني «سوبك» كان رأسه على شكل تمساح، وله خواص متعددة ومتناقضة في مهامه، بحسب الحقبة والموقع من ضفاف «النهر الخالد». اللافت كان مشاهدة ما يشبه الدموع في عيني التمساح، وهو يشظّي جثث ضحاياه ليبتلعها في دورته المحورية في الماء حول الذات. نسجت على هذه المشاهدات أساطير عديدة، على أساس أن التمساح يتعاطف مع فريسته ويعتذر عن آلامها عندما يمزّقها وهي حية، ويتناتشها مع زملاء له، صودف وجودها قريبة منه، أو عند نصبها الأفخاخ لجحافل الظباء والجواميس أثناء عبورها القسري في النهر باتجاه المراعي. الأسطورة الطريفة الأخرى هي أنّ التمساح يمارس نوعاً من التقية موهِماً ضحاياه بالضعف وقلة الحيلة ما يشجّع الضحية على الاقتراب للمواساة، فتكون المفاجأة أنها تصبح هي مدعاة للشفقة التي لن تلقاها أبداً من التمساح. هنا، فإن التعبير يعني عادة النفاق والخداع الممزوج بالتقية، ولا أحد يدّعي أنها صفات التمساح، فهو كغيره من الحيوانات يهمه أن يأكل، ولا أحد تمكّن من سبر غور مشاعره، إن وجدت بشكل عاقل. كما أن كل الدراسات العلمية لم تتمكن من حل اللغز التشريحي الكيميائي والعصبي لهذه المشاهدات، سوى أنه تم إثبات حدوث تلك الظاهرة عند عدد من التماسيح.
الواقع، لا يمكن لأحد بالمعطيات العلمية الحالية معرفة مشاعر التمساح أو أبعاد فكره إن كان يتخطى مبدأ الأكل والتناسل، ولا أحد يعرف سر التقية التي يمارسها في نصب الأفخاخ لضحاياه. ما يمكن استنتاجه هو أنه «إذا رأيت دموع التماسيح جارية فلا تظنن أن التمساح يكتئب»، بالإذن من المتنبي. ما عليك عندها إلا أخذ الحيطة والحذر معتبراً أن نية التمساح هي التهامك.
هذا ما لم يأخذه بالحسبان رفيق الحريري يوم اقترب من وكر التماسيح، ظناً منه أنه بتعاطفه معها يمكن له أن يأمن شرها. مصيبة بعض الناس، بأنهم يقعون في الفخ تكراراً، حتى وإن كانت لهم تجارب واسعة، بمجرد أن يتعاملوا مع الآخرين بمنطق البشري ذي البعد الفكري والاجتماعي والتعاطفي، الذي تخطى مرحلة حال الطبيعة أو الفطرة، التي وصفها توماس هوبس «كل إنسان هو ذئب للإنسان». كل ذلك لأن بعض الناس لم يتخط أو يسيطر على مرحلة فكر السحالي الموروث في جيناتهم الوراثية، حتى بعد أن تخطى البشر حال الطبيعة إلى مرحلة العقد الاجتماعي.
ما تحدث عنه هوبس في كتابه الشهير «الطاغوت» أو «لفياثان»، وهو إسم أحد أشباه الآلهة المتوحشة عند العبرانيين، هو أنّ حال الحرب الدائمة تشبه إلى حد كبير حال الطبيعة، حيث لا قواعد أخلاقية أو مصلحية مشتركة بين البشر سوى اعتبار الآخر مفترساً وضحية بالوقت ذاته. أي أن الفرد في حال الحرب عليه قتل الآخر قبل أن يرتدّ عليه، لأن الآخر يفكر أصلاً بالشر مهما بدا وديعاً، أو دمعت عيناه تأثراً.
حال الطبيعة هي إذاً حال الحرب، حيث الخداع المميت حلال والقتل حلال كما تدمير البيوت والغاز السام حلال وتهجير الناس من ديارهم أيضاً حلال، لأنها من ضروريات الانتصار، بغض النظر عن عدد الضحايا ومدى مسؤوليتهم أو ذنبهم. وقد يشعر قلة من المشاركين في حفلات التنكيل بالبشر بوخذ ضمير عابر، لكنهم يدوسون بسرعة على هذا الضمير في سبيل تحقيق الغاية، على طريقة مكيافيلي «الغاية تبرر الوسيلة».
«حزب الله» لم يدعّ يوماً أنه حزب سياسي، هو بالأساس فيلق عسكري، ومهمته المقاومة المسلحة تحت راية مشروع أصبح اليوم جلياً للناس، ومن المنطقي القول إذاً أن مهمة هذا الحزب تصبح لاغية بعد انتهاء دوره العسكري أو عند الانتصار في الحرب النهائية. بحسب معرفتي فإن «حزب الله» يعتبر نفسه فيلقا من فيالق المعركة النهائية بين الخير والشر، أي أنه، بحسب تصريح أحد نوابه عشية حرب تموز، «عندما ينتهي التاريخ ينتهي «حزب الله» لأنه ليس حزباً بشرياً بل هو «حزب الله». من هنا، فإن الحزب وقيادته في حال طبيعة وفطرة دائمين، لأنهما دائما في حال حرب إلى نهاية الأزمنة، وإلا لفقد الحزب جوهر وجوده. بالطبع، فلا شيء يميّزه عن منظومات موهومة أخرى مرت في تاريخ البشر المعروف، ومن ضمنها في عصرنا الحديث الشيوعية والنازية والداعشية، وكلها كانت تفترض أنها في صراع دائم إلى نهاية الأزمنة، أكانت تلك النهاية المشاعية أو الفالهالا أو النعيم.
منذ بضعة أيام، قال حسن نصر الله، قائد الفيلق العسكري في الحرس الثوري، انه يأسف لقرار سعد الحريري بتعليق المشاركة في الحياة السياسية وانه يسعى للتعاون مع «تيار المستقبل». بالشكل، فالأسف يشبه ما حصل بُعَيد اغتيال رفيق الحريري عندما تصدر نصر الله حلقة العزاء، ومن بعدها تبيّن أن عناصر من حزبه نفّذت عملا حربياً فيه فتوى آتية من زمن حال الطبيعة وهي متفجرة على الطريق الذي مر بها موكب الحريري. ونذكر كم أسف نصر الله يومها. أما بعد، فبدل الأسف على قرار سعد الحريري، فما عليه إلا خلق الظروف التي تسمح بالعودة عن القرار، وهو أن يلغي سبب وجود حزبه، أي الخروج من حال الطبيعة والدخول في المدنية. عدا ذلك فكل ما نسمعه هو ضرب من ضروب التقية التي وصفها المعلم علي شريعتي «التقية الصفوية»، أي تقية الغدر والخداع ونصب الأفخاخ.