كتب مصطفى علوش في الجمهورية
«سَئِمْتُ تَكالِيفَ الحَياةِ وَمَنْ يَعِشْ * ثَمانينَ حَوْلًا لَا أَبَا لَكَ يَسْـــــأَمِ وأَعْلَمُ ما فِي اليَوْمِ والأَمْسِ قَبْلَهُ * ولَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ ما فِي غَدٍ عَمِ رَأَيْتُ المَنايَا خَبْطَ عَشْواءَ مَنْ تُصِبْ * تُمِتْهُ ومَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ ومَنْ لَمْ يُصَانِعْ فِي أمُورٍ كَثِيرَةٍ * يُضَرَّسْ بِأَنْيابٍ ويُوطَأْ بِمَنْسِــمِ ومَنْ يَجْعَلِ الـمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ * يَفِرْهُ، ومَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ» (زهير بن أبي سلمى)
جميلة وبليغة تلك القصيدة المنسوبة لشخصية لا يعلم أحد إن كانت أو لم تكن، فما يُطرح عن الشعر العربي الجاهلي منذ أيام «طه حسين» يشكّك بصحة نسبة تلك التحف الفنية، على أساس أنها كلها تم نظمها بعد بضعة قرون مما افترض، لكن ما هم؟ فقد خلّدت هذه الملحمة الشعرية إسم زهير بن أبي سلمى! لكن ما سيق في تلك الرائعة يؤكد أن الناس لا يخوضون غمار الحرب إلا مكرهين.
قد يكون سنّة لبنان الأكثر رسوخاً في التاريخ في لبنان! بعد دراسة، نُشرت منذ زمن من خلال الجامعة الأميركية في بيروت، عن الأصول الجينية الفينيقية في لبنان، تبين أن أهل مدن الساحل هم أكثر من يحمل من هذه الجينات. لكن، حتى في الطباع، وبما أن شهرة الفينيقيين كانت بالتجارة ونشر الحرف المكتوب، فإنّ التاجر الذي يبحث عن الازدهار والنجاح، يحاول دائماً نسج العلاقات واتّباع سبل التسويات بدل النزاع والحروب التي تضرب الاستقرار، وتخرب سبل الرزق. لكن، وعلى كل الحالات، في ظل التحولات العظيمة في هذه المنطقة المضطربة دائماً من العالم، لا يمكن تأكيد أصل وفصل أي منا، لا في العرق ولا في القومية، وبالتأكيد لا في الدين ولا المذهب. فالتحول من الديانات القديمة إلى الديانات القائمة والناشطة اليوم لم يأت بالأفواج ولا بالجملة ولا بلحظة خاطفة من التاريخ، بل من خلال تحولات بطيئة تدخل فيها أولًا المصالح وثانيًا التأثير المجتمعي ومعها جملة من الأمور التي لا حصر لها. ففي الامبراطورية الرومانية، التي تحولت بقرار سياسي سنة 325 إلى المسيحية بعد مجمع «خلقيدونيا»، بقيت الديانات الموروثة قائمة لقرون عدة تَلت، على رغم من القمع المتعدد الأشكال الذي مورس ضدها. كما أن ألبرت حوراني في كتابه المرجعي «تاريخ شعوب العرب» المكتوب أصلًا باللغة الانكليزية أكد أن أكثرية الشعوب الواقعة تحت الحكم الإسلامي لم تصبح بأكثريتها مسلمة إلا بعد ثلاثة عقود من البداية الافتراضية. في المحصلة، فقد اختلطت الشعائر مع العقائد لتنتج ما حصل.
أما عن الأعراق، فحدّث ولا حرج، فلكل شعب فاتح مرّ من هنا بعض من جيناته الممتزجة مع الخليط الطبيعي والمنطقي بحكم الأمر الواقع. وهناك دراسة تؤكد أن أحفاد جنكيز خان الحاليين يربو عددهم عن ستة عشر مليون إنسان حول العالم حتى يومنا هذا.
كل هذا لأقول ان الحديث عن أصل الأفراد في التاريخ لا يمكن تأكيده إلا بدراسة علمية جينية تعطي بعض الاحتمالات، أما عن التحولات الاجتماعية والإيمانية للأفراد، فمن المؤكد أنها غير ممكنة إلا بالفرضيات والأساطير المفعمة بالآراء الشخصية، وكما يقول «أفلاطون» فإن الرأي الشخصي أو الانطباع لا يشبه الحقيقة بالضرورة.
لنعد إلى مسألة السياسة الضباعية، أي نسبة إلى الضباع، وهي حيوانات مفترسة في الأساس وتسعى كغيرها من الضواري إلى اصطياد الفرائس من مختلف الأشكال، لكنها أيضاً تستسهل الأمور عند الإمكان، وتوفر النضال والتعب من خلال السعي وراء الجيف وبقايا فرائس حيوانات أخرى. لكن مكانتها وموقعها الأساسي في مملكة الغابات والسهوب هو كونها تأخذ بالقوة والبطش وليس بالحوار والتسويات.
يقول سيغمند فرويد ان المجتمعات بدأت تنشأ عندما تعلّم البشر الشتائم، أو بالأحرى عند تحويل عنصر الجدل العنيف من العض والضرب والقتل إلى كلمات. الكلمات كانت أساس تحويل الخوف الدائم من الآخر إلى وسيلة للتسويات للعيش معاً من دون خوف من الغدر الكامن وراء وجه الآخر. والتسويات هذه هي التي سكّنت الذئب الكامن في جينات البشر، بحسب رأي توماس هوبس، ومكّنتنا من بناء الحضارات والمجتمعات المعقدة والمتشابكة، من خلال التعاون والتنافس، متجنّبين إراقة الدماء ما أمكن.
في لبنان، ما زالت الضباعية تهيمن على الحياة الاجتماعية والسياسية. هناك اقتناع في أن «الشاطر بشطارته» هو المبدأ السليم، وأن ما يمكن لَطشه أو الاستلباص عليه بالقوة أو بالاحتيال أفضل وأسهل وأضمن من السعي إليه من خلال الجهد والتسويات والمشاركة. هذا المنطق بالذات هو الذي أدى إلى الحرب الأهلية الطويلة التي أنتجت جيلاً من أشباه السياسيين الذين نقلوا عدة شغل الضباع من مواقع السواتر الترابية والقصف المدفعي العشوائي والقنص على المحاور والحواجز الطيارة، إلى مجلس النواب والمؤسسات والوزارات ورئاسة الجمهورية. ورغم أنهم أصبحوا في موقع القرار والمسؤولية، وبعضهم لديه الأهلية المعرفية للحوار والتسويات، لكن في كل وقت يظهر الضبع وراء الكلمات والانفعالات بتهديد بالعودة الى الحرب الأهلية من جهة، أو الحديث عن الحقوق المسروقة أو بإنتاج مشاريع وقوانين انتخابات ترفع المتاريس بين الطوائف، وتقيم الحواجز على مداخل الشوارع والحارات.
الحريرية السياسية دخلت إلى لبنان خلال الحرب الأهلية، ورغم أن ثروة مؤسسها وقدرات من يدعموه كانا قادرين على تحويل طائفة بكاملها إلى فرقة من الضباع، آثرت لغة التسويات التي، قد يخسر فيها أطرافه بعضاً مما لُطش واعتُبر حقاً مرصوداً، لكن الأمان وراحة البال مكاسبهما أكبر بمرات مما قد يُلطش بفعل موازين القوى المختلة، التي لا تلبث هي ذاتها أن تتغير، فيعود من لُطش منه لينقضّ على من لَطشه في السابق. بالطبع هي حلقة مفرغة من العنف المتبادل الذي يشد جميع أطرافه نحو أقنية الصرف الصحي، أو إلى أسفل مراتب جهنم كما وعدنا!
في عز الحرب الأهلية الطائفية المذهبية القومية العشوائية، ذهبت الحريرية إلى استجداء الضباع حقن الدماء ووقف التدمير، ومن ثم إقناعها بفوائد التسويات. حتى عندما أتى من يقنع الحريرية بجدوى إنشاء فصيل من الضباع، كاحتياطي لحماية التسويات، رفضت الفكرة من أساسها لأنها لن تحمل على ظهرها وزر الموت والدمار، حتى وإن كان تحت راية الوعد بالأمان والاستقرار، ولأن من تضبّع يوماً سيكون من الصعب عليه العودة إلى مجتمع مستقر لا حاجة فيه للتضبّع.
ولأن الحريرية السياسية ليس لها أنياب، أصبحت ضحية اللطش من كل الجهات، وحتى أن الحراك الذي انطلق في السابع عشر من تشرين، استسهل استهدافها قولاً وعملاً، في حين أن بعض الضباع لبسوا ثوب الثورة، وآخرون استلّوا سيف الإرهاب ضد مَن تسوّل له نفسه من الثورجيين بأن يمس سيدًا من أسياد الضباع ولو بعبارة عابرة، فكان يجبر على لحسها مذلولا في اليوم التالي. المؤلم هو أن السياسات الحريرية رزحت تحت فعل «البروباغندا» المستسهلة لخلق كبش محرقة وتضييع البوصلة في البحث عن مكامن الخلل الحقيقية. فعندما كنت أخوض بعض الحوارات المتفرقة، مع بعض متنطحي الثورة من نخب أو حتى شبان يافعين، كنت أسألهم عما تعني لهم السياسات الحريرية، فكانوا، إما لا يعرفون ما يجيبون، أو يختصرون العلل في بعض هوامش الأمور، من دون البحث في الظروف التي أملتها التجربة وتأثيرات الضباع المتعددين، من محليين وإقليميين. لكن المضحك هو أن كل الحلول التي يطرحها هؤلاء تشبه أو تتطابق مع السياسات الحريرية.
مخطئ من يظن ان هذه السياسات هي أضعف من الضباعية، فقوتها هي في أنها قادرة على قلب واقع السيطرة الضباعية، ومن هنا كان اغتيال مؤسسها سنة 2005، ومن ثم استهداف وقتل بعض من ورثتها، إلى أن وصل الأمر إلى إحراجها وإخراجها كما حصل منذ أيام. ما طُلب من الحريرية، من الداخل والخارج، هو أن تتحول إلى الضباعية، فآثرت تعليق المشاركة في حفلة جنون لا يُعرَف مداها، فإلى اللقاء في زمن آخر!