مَن يتابع الفضائيات اللبنانية تثير اهتمامه إعلانات لشركة استثمار عقاري تعرضها مراراً على مدار اليوم قناة ملكيتها مسيحية ومقرها في قلب المنطقة المسيحية
اللافت في هذه الإعلانات ليس فقط أنها تركز على مناطق ذات كثافة سكانية مسيحية ودرزية وتطل على العاصمة بيروت، بل إن هذا «الاستثمار» العقاري المُعلن عنه يأتي وسط ضائقة معيشية طاحنة يعيشها اللبنانيون، الذين بات كثيرون منهم يتسوّلون الغذاء والدواء – وأحياناً المأوى – تسوّلاً على شاشات التلفزيون.
إعلانات عن استثمارات عقارية تضم أبنية سكنية وتجارية فاخرة… بينما نرى نحو ثلث اللبنانيين تحت خط الفقر، ويسقط سعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي سقوطاً حراً، وتضيّق المصارف على سحب المُودعين ودائعهم… حتى غدا الحلم الأكبر لأي شاب أو شابة في البلاد الحصول على تأشيرة للمغادرة والاستقرار في الخارج!
ومن هذا الواقع المؤلم لا بد أن يطرح التساؤل المنطقي التالي:
إذا كان اللبناني المُقيم عاجزاً عن الشراء، واللبناني المغترب يتردّد ألف مرة قبل أن يستثمر دولاراً واحداً في بلاد يكاد لا يصدّق أنه نجح في مغادرتها، والمستثمر العربي ما عاد يطمئن على ممتلكاته في أرض تحتلها ميليشيا مسلحة معادية للعرب، والمستثمر الأجنبي فقد ثقته بنظام لبنان المصرفي ومؤسسته القضائية… فمن ذا الذي يمكن أن يشتري هذه العقارات المعروضة للبيع يا ترى؟!
هنا أتذكّر ما كنت قد قرأته منذ سنين بعيدة عن نكبة فلسطين بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. كما أتذكر جوانب من التاريخ العقاري الفلسطيني، وبضمنه نظام الالتزام. وكيف، عبر العقود، سُنت قوانين عدة أبرزها قانون الأراضي عام 1858 وقانون الطابو عام 1861 وقانون تملك الأجانب عام 1869.
وأتذكر بعد ذلك، كيف صدرت إبان فترة الانتداب البريطاني – تحديداً، فترة ولاية السير هربرت صموئيل – قوانين جديدة، وعمل الانتداب على تغيير القوانين العثمانية لتسهيل انتقال الأراضي للمستوطنين اليهود وهو ما جرى بأموال الوكالة اليهودية واللورد روتشيلد وغيرهما… ومن ثم حذا المفوضون الساميُون الذين خلفوه حذوه في هذا الشأن.
ولقد كان بين أبرز القوانين الصادرة عن «حكومة الانتداب» بشأن الأراضي في فلسطين جعل انتقال الأراضي مرهوناً بموافقتها ومنع الفرد الواحد من امتلاك أكثر من 300 دونم من الأراضي الزراعية لا تتجاوز قيمتها 3000 جنيه مصري، ولا يسمح له بامتلاك أكثر من 30 دونماً داخل مناطق المدن، وكان على المالك أن يكون مقيماً في فلسطين، وأن يتولّى زراعة الأراضي وتحسينها بنفسه. وهكذا، اضطر معظم الإقطاعيين المحليين والملّاكين السوريين واللبنانيين لبيع ممتلكاتهم الضخمة. ولقد باع ثري بيروتي من أسرة مرموقة خلال يوم واحد 20 بلدة وقرية فلسطينية في مرج ابن عامر بينها (مدينة) العفولة. كذلك باعت أسرة بيروتية أخرى ممتلكات مهمة في قلب مدينة يافا التي كان شارعها التجاري الرئيس يحمل اسمها.
أيضاً صادرت «حكومة الانتداب» أراضي شاسعة بحجة أنها تُركت ثلاث سنوات من دون زراعة (أيام الحرب) وطبّق هذا القانون بأثر رجعي، ما حرم حتى الفلاحين من الاستفادة من الأراضي المحلولة التي كانوا يتصرفون فيها.
كذلك، فرضت «حكومة الانتداب» عدة ضرائب على الأملاك. وبعد إصدارها «قانون ضريبة الأملاك في المدن» عام 1928 انتقلت لبحث الضرائب المفروضة في مناطق الأرياف وتوحيدها في ضريبة واحدة. وهكذا كانت الضرائب التي فرضتها «حكومة الانتداب» على عرب فلسطين وسيلة رئيسة لانتقال الأراضي من المواطنين العرب إلى المستوطنين اليهود.
أزعم أن الإجابة عن تساؤلي عن مصير أراضي لبنان سهلة لأربعة أسباب منطقية جداً، هي:
1- الجهة الوحيدة التي تملك اقتصاداً موازياً لا يتأثر بالاقتصاد اللبناني هي «حزب الله». ذلك لأن ميزانية هذا الحزب – وفق اعتراف صريح وعلني من أمينه العام – ومرتباته ومصاريفه وسلاحه من الجمهورية الإسلامية في إيران.
2- منذ عام 2007 كشف الإعلام اللبناني النقاب عن عمليات شراء أراضٍ واسعة في منطقة جبل الريحان الريفية بشمال منطقة جنوب لبنان. وذُكر في حينه أن عمليات الشراء هذه جارية بهمة رجل أعمال شيعي مهاجر في أفريقيا (محسوب على الحزب)، هدفها المزدوج إنشاء «طريق سريع» يصل بين بعلبك (كبرى البلدات الشيعية في شمال شرقي لبنان) والنبطية (كبرى المدن الشيعية في الجنوب)، وفصل المسيحيين والسُنة والدروز في جنوب شرقي لبنان عن امتداداتهم الأكبر في الجبل وبيروت وصيدا. وحقاً، دافع أحد مسؤولي «حزب الله» في تلك الفترة عن شراء الأراضي، واعتبره خطوة حاسمة «لمنع الفيدرالية».
3- إن سيطرة «حزب الله» (ومن خلفه إيران) على طريق بيروت – دمشق وعلى الطريق الساحلي بين بيروت والجنوب (حيث الخزّان البشري الشيعي والاستراتيجي لعمق الضاحية الجنوبية) تقع في صميم الاستراتيجية الإيرانية الإقليمية الهادفة إلى جعل بيروت ميناء طهران على البحر المتوسط وربطها بخط يمر في دمشق وبغداد. ومعروف كيف أنجزت إيران عملية التغيير الديموغرافي في سوريا، وما تفعله راهناً في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، ناهيك من تغيير هوية دمشق نفسها.
4- تشعر إيران، التي «ترفع السقف» تكتيكياً في مفاوضات فيينا النووية، باطمئنان وثقة إلى المواقف الغربية (خاصة الأميركية). وهي تشعر أن واشنطن ستفرج – في نهاية الأمر – عن أرصدتها المالية المجمدة، وستغض الطرْف عن هيمنتها الإقليمية. كيف لا وطهران تدرك أن ملفها في العاصمة الأميركية بأيدي أشخاص تثق بهم، وأن إدارة جو بايدن ليست في وارد التورط عسكرياً في الشرق الأوسط… ولعل الانسحابين من أفغانستان ثم العراق خير دليل.
ممّا تقدم، يتضح أن كل لبنان بات الآن فعلياً «مستوطنة» سكانها «رهائن» عند الجهة التي أفقرتهم وجوّعتهم و«استرهنتهم» وأذلتهم منذ عام 2006.
نعم. الرهائن، هم أولئك البائسون القابعون بلا غذاء ولا دواء ولا أمل تحت «رحمة» الصواريخ الموجّهة إلى مدن العرب وأريافهم.
الرهائن، هم المساكين الذين يخشون أن يأتي دورهم قريباً في ركوب حافلات التهجير وقوارب اللجوء اليائس، بينما تُشرع أبواب بيوتهم – إذا بقيت بيوت وأبواب – أمام المستوطنين الطائفيين الجدد.
الرهائن، هم الذين فضّلت لهم إيران العيش تحت هيمنتها الثيوقراطية… على مجرد التفكير في «اللامركزية».
المصدر: الشرق الاوسط