جاء في “الشرق الأوسط”:
تنحني امرأة خمسينية قرب حاوية نفايات يرمي فيها تجار الخضار واللحوم في سوق صبرا الشعبية بقايا بضائعهم التالفة، تنبش بين أكياس القمامة ما يمكن أن تجده من حبات الطماطم المهروسة، أو البصل، قبل أن تنتقل بضع خطوات إلى الأمام حيث تتكوم إلى جانب المكب عظام ورؤوس المواشي، علها تجد بينها بعض نسرات اللحم تضعها في كيسها الأسود.
وعلى بعد بضعة كيلومترات، على الواجهة البحرية في وسط بيروت، يكتظ أحد المطاعم الفاخرة برواده من الطبقة المخملية، وتصطف أمام واجهته سياراتهم الفارهة. وتلمع المجوهرات التي تتزين بها السيدات.
مشاهد الأضداد ليست جديدة في بلد التناقضات لبنان الذي طالما اعتبر مواطنوه أن اختلافاتهم وتنوعهم تشكل فرادة ما، ولطالما رددوا بفخر: «هيدا لبنان». أما المستجد، فوجود مظاهر الرفاهية وازدحام المطاعم والنوادي الليلية والمنتجعات، في الوقت الذي تتحدث فيه التقارير عن أن أكثر من 70 في المئة من سكان لبنان يعيشون في فقر متعدد الأبعاد.
يقول الباحث في الشركة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين إن «هناك 5 في المئة من اللبنانيين من الأثرياء، يشكلون نحو 100 ألف شخص لديهم قدرة شرائية عالية بالدولار، أضف إليهم نحو 850 ألف لبناني يتلقون حوالات نقدية بالعملة الصعبة من ذويهم في الخارج وهم أيضاً لديهم قدرة شرائية مرتفعة». ويشير لـ«الشرق الأوسط» إلى أن هذه الأرقام «تفسر مظاهر الرفاهية التي نشهدها في لبنان، لكنها لا تلغي وجود 3 ملايين لبناني يعيشون أوضاعاً اقتصادية صعبة».
في منطقة فردان في بيروت، يعج المجمع التجاري بالزائرين مساءً، بعضهم يمشي بأيدٍ خاوية والبعض الآخر يلوح بأكياس لملابس وأحذية وهدايا اشتراها للتو. وعلى بعد أيام من حلول عيد الميلاد، ومع وصول سعر صرف الدولار إلى 27 ألف ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد، تجول أعداد كبيرة من الناس في الأسواق إلا أن القليل منهم يقوم بالتبضع.
لا طاولات شاغرة في القسم المخصص للمطاعم والمقاهي، ويتعين على الزائرين الانتظار لمدة تصل إلى نحو ساعة لالتقاط ركن يتناولون عليه العشاء. تصطف إلى جانب الطاولات الممتلئة تلك، أكياس التبضع، بعضها من العلامات التجارية الفاخرة التي تفتح أبواب متاجرها في الطابق الأول في المجمع عينه. أما أكياس البعض الآخر فمن العلامات التجارية التي كانت تعتبر متوسطة الأسعار قبل استفحال الأزمة في العام 2019، ولم تعد اليوم بمتناول السواد الأعظم من اللبنانيين.
وأنتجت الأزمة الاقتصادية طبقة «الفقراء الجدد» وسحقت الطبقة المتوسطة لتبرز مكانها طبقة جديدة تعرف بـ«طبقة الدولار»، أي الذين يتقاضون رواتبهم أو تصلهم حوالات خارجية بالعملة الصعبة. في المراكز التجارية يتجول الميسورون بمقتنياتهم الجديدة، كما يتجول الفقراء الجدد، وهم المنتمون إلى الطبقة المتوسطة سابقاً، بأيدٍ خالية. الطبقتان اعتادتا في الماضي القريب التبضع من المجمع التجاري نفسه، أما اليوم ومع معاناة أكثر من 82 في المائة من الفقر المتعدد الأبعاد بحسب دراسة أعدتها «الإسكوا»، أصبح التبضع محصوراً بطبقتين: الميسورين وحاملي الدولار.
وينسحب الترف على أماكن السهر، حيث تصل أسعار تذاكر الدخول إلى المليوني ليرة لبنانية (نحو 80 دولاراً). ورغم ذلك، تعج تلك الأماكن بروادها. يواصل هؤلاء حياتهم بالطريقة المعتادة، ولم ترخِ الأزمة بأثقالها على حياتهم الاجتماعية والاقتصادية. هي الوجوه نفسها تقريباً، تنتقل من مطعم إلى آخر، ومن منتجع إلى آخر.
على طاولة «VIP» في أحد النوادي الليلة يمضي راجي مع أصدقائه أوقاتاً ممتعة. لا تتوقف الطلبات من النادل الذي يحرص على تلبية حاجات الزبائن. فالطاولة التي تضم ستة أشخاص كلفت راجي، وهو ابن مغترب لبناني، وأصدقاءه 20 مليون ليرة لبنانية «يعني 700 دولار، أي أقل كلفة من السهرات على أيام سعر صرف الـ1500 ليرة لبنانية»، حسب ما يقول لـ«الشرق الأوسط».
ويضيف: «نحن الميسورين كما يسمينا البعض، لم نفتعل الأزمة الاقتصادية، ولم نجر لبنان إلى الهاوية، على العكس نحن الفئة التي تبقي قطاع المطاعم والمنتجعات مستمراً إلى جانب السياح والمغتربين… لسنا نحن من تسبب بفقر الناس ولا من سلبهم أدنى حقوقهم الحياتية. وفي هذا البلد اللاطبيعي لا بد من أن نسرق لحظات الفرح… لا تلوموا الناس على يسرها بل لوموا من أفقر أكثر من نصف الشعب».
وللمفارقة يتناقض هذا المشهد مع آخر في الحي الجنوبي من العاصمة. في جولة داخل أزقة منطقة صبرا حيث توجد متاجر عشوائية وبسطات لبيع مختلف أنواع السلع والأطعمة، ترتسم ملامح الفقر على وجوه اللبنانيين. ويتنقل المارة وسط مستنقعات من المياه في الشتاء، هي خليط من مياه الشتاء ومياه الصرف الصحي.
أمام إحدى البسطات يسأل رجل البائع: «بكم اللوبية؟» وهو يمد يده ليتفحصها، «الكيلو بـ15 ألف ليرة» يجيبه الأخير، فيسحب الرجل يده. يسأل مستغرباً: «15 ألفاً!»، ويكمل طريقه وهو يتمتم ويشتم الدولار والتجار وجشعهم، ونفسه.
الرجل، الذي يوحي رد فعله بوضعه الاجتماعي، يخبر «الشرق الأوسط» أنه لا يتقاضى راتباً. هو «ناطور» في أحد مباني منطقة الطريق الجديدة البيروتية القريبة، ويعمل مقابل السكن في غرفة يقطنها مع عائلته ويمسح ويكنس أدراج المباني المجاورة مقابل القليل من المال. بالنسبة له، لا فرق إن كان هذا المبلغ يساوي 10 دولارات على سعر الصرف القديم (1500 ليرة لبنانية) أو يعادل بضعة سنتات على سعر صرف الدولار اليوم (27 ألف ليرة لبنانية). أصبحت وجبة اللوبية بزيت التي تعتبر من الأكلات الاقتصادية، تكلف مكوناتها أكثر من 70 ألف ليرة، ما لا طاقة له على إعدادها.
وعلى بسطة أخرى يبيع صاحبها الأحذية، قطعة من الكارتون كتب عليها «الحذاء بـ70 ألفاً»، تمر امرأة ممسكة بيدي ولدين إلى جانبها، تناديه عن بعد بضعة أمتار سائلة: «الاثنين بـ100 (ألف ليرة لبنانية)؟»، «120 ألف (ليرة لبنانية) يجيب»، فتصر، وبعد أخذ ورد يوافق البائع. «استفتاحية» يقول للسيدة، فتقسم أنها لا تحوي في محفظتها إلا 100 ألف ليرة لبنانية لشراء أحذية شتوية لولديها «ليذهبا بها إلى المدرسة»، حسب ما تخبر «الشرق الأوسط».