كتبت ندى ايوب في جريدة الأخبار:
تغييريّو الأمس موالو اليوم: حرية التعبير وجهة نظر
منذ الساعات الأولى من احتجاجات 17 تشرين 2019، ولثلاثة أشهر متواصلة، قطع المتظاهرون طرقات البلد من حدوده إلى حدوده، تحت شعار «قدسية حرية التعبير». صباحاً ومساءً، مُنعت السيارات من المرور على الأوتوسترادات والطرقات العامة، ومن ضمنها طريق المطار، وتلك التي تربط المناطق بعضها ببعض وبالعاصمة. وكان المحتجون يعتبرون أنّهم يضحّون بوقتهم ويتركون مصالحهم ويعرّضون أنفسهم لخطر المواجهة مع «قوات حفظ أمن النظام»، كما جرت تسميتها، أي الأجهزة الأمنية والعسكرية، دفاعاً عن حقوقٍ تخص المجتمع ككل. وكانوا يطلبون من المتذمّرين العالقين في سياراتهم الانضمام إليهم في الضغط على السلطة السياسية لانتزاع تلك الحقوق والمطالب.
هكذا نُظّر إلى قطع الطرقات كأداةٍ للضغط الشعبي على السلطة السياسية، وارتقاءٍ في مستوى الاحتجاج. وعلى أكتاف انتفاضة كان يُفترض بها أن تحمل هموماً اقتصادية – اجتماعية بعد حزمة ضرائب ورسوم فرضتها السلطة، «عربشت» أحزاب سلطوية كانت قبل أيامٍ ممثلةً في حكومة سعد الحريري التي انتفض بوجهها التشرينيون. جميع هؤلاء، اتفقوا على أن لا «اتيكيت» للتظاهر، وأنّ للثائر «حق فعل ما يريد». ودعم أصحاب الرأي الحقوقي في صفوف «الثوار» هذا التوجّه، وأكدوا في خطاب حقوقي صرف حق «المنتفضين في التعبير كيفما شاؤوا، وأن أحداً لا يمكنه أن يعلّم الناس كيف يعبّرون عن غضبهم».
مؤيدو «العنف الثوري» (وهي ليست مذمّة) من ناشطين سياسيين وحقوقيين، ونواب «تغيير» حاليين كانوا منخرطين في ساحات الانتفاضة، انقلبوا على أنفسهم اليوم، مندّدين بقطع طريق المطار لساعات قليلة على مدى ثلاثة أيامٍ. ليس الأمر مفاجئاً، فهؤلاء من صنفٍ يهوى استخدام الخطاب الحقوقي بطريقة أدواتية. يتلطى خلفه إذا كان يصبّ في مصلحته، ويقفز فوقه متخطّياً خطابات الحرية والتعبير والحقوق، إذا كان يخدم خصمه السياسي. بعض من دعموا وموّلوا خيماً في ساحة الشهداء لأكثر من سنة، «ينهارون» اليوم أمام مشهد قطع طريق المطار، علماً أن المحتجين هناك يحملون السردية نفسها باعتبار احتجاجهم دفاعاً عن المجتمع ككل في وجه بلطجةٍ سياسية خارجية.
البعض يبرّر لنفسه حقه في عدم التعاطف مع بيئة حزب الله التي كانت من أشد المعترضين على قطع الطرقات أيام انتفاضة تشرين، واحتكّت بالمتظاهرين. لكن هذا التشفّي لا يلغي ازدواجية المعايير، وانقلاب المنظّر الحقوقي على مبادئه التي يفترض أنها منطلقات ثابتة. النفاق الطافح إلى السطح بوقاحة، دفع بمن ردّد عبارة «عسكر على مين» بوجه عناصر الجيش وقوى الأمن، إلى «تأليه» المؤسسة العسكرية والتعبير عن رفضه للتعرّض للجيش. بينما كان أول إنجازات «التشرينيين» أنهم كسروا «التابوهات» والهالات المقدّسة حول المؤسسة العسكرية والرئاسات الثلاث والزعماء السياسيين، عادوا ليمتعضوا من توجيه متظاهري طريق المطار سهام الاتهام والمسؤولية بشأن أزمة الطيران الإيراني إلى رئيسَي الجمهورية والحكومة جوزيف عون ونواف سلام. فمعارضو الأمس، أصبحوا جزءاً من الحكم. وبات لنواف سلام مطبّلون مدافعون كما كان لسعد الحريري مناصرون إبان انتفاضة تشرين، وكما كان أيضاً لرئيس الجمهورية آنذاك ميشال عون مناصرون عارضوا التعرّض لمقام الرئاسة ولشخص الرئيس، فوصفهم «التغييريون القدامى» بـ«غنم الأحزاب».
ومن المفيد تنشيط الذاكرة الجماعية، حول تواريخ أساسية، بلغ فيها الاحتجاج مداه، في انتفاضة تشرين، وكان يُبرر من قبل جمع الناشطين والأحزاب المنخرطة، كاقتحام وزارات الخارجية والطاقة والبيئة والاقتصاد وبعثرة ملفاتها، واقتحام مؤسسة كهرباء لبنان، والتظاهر على طريق القصر الجمهوري بهدف قطعها، واقتحام مقر تلفزيون لبنان اعتراضاً على عدم تغطية التظاهرات، وتطويق مجلس النواب، واستخدام قنابل «المولوتوف» وأجهزة «الليزر» بوجه قوى الأمن، وإحراق مبنى بلدية طرابلس. والأفظع بناء مناصري «القوات اللبنانية» جداراً إسمنتياً عند جسر نهر الكلب، في انعكاس للممارسات الميليشياوية للقوات التي تصف قطع طريق المطار اليوم بغير الحضاري!
النقاش ليس في صوابية طريقة التعبير من عدمها، بل بماذا لو فعلت «بيئة حزب الله» نصف ما أقدم عليه تغييريو الأمس – موالو اليوم؟