في إطار احدى المنتديات الشبابية التي حضرتها في فرنسا وضمن برنامجه، تمت دعوتنا كشباب/ات مشاركين/ات لجولة داخل معرض “ما تقدمه فلسطين للعالم”. وللمناسبة كانت لنا فرصة فريدة لحضور هذا المعرض والذي يأتي في الذكرى الـ 75 للنكبة عام 1948، بحيث يستضيف معهد العالم العربي بين 31 أيار/ مايو و31 كانون الأول/ ديسمبر مجموعة المتحف الوطني الفلسطيني المستقبلي للفن الحديث والمعاصرـ والتي تحوي نحو 400 قطعة فنية من بينها اعمال مختارة لفنانين ومصورين فلسطينيين، وذلك بمبادرة من سفير فلسطين السابق لدى اليونسكو الياس صنبر وتنسيق الفنان ارنست بينون ارنست.
كتبت جويل عبدالعال في بيروت الحرية:
إن أكثر ما يفتقر إليه معرض “ما تقدمه فلسطين للعالم”، هو الجرأة والمقاومة. الجرأة والشجاعة في إبراز وجه المستعمر الحقيقي، في التصدي له والكشف عنه، والمقاومة الصلبة التي قدمها الفلسطينيون/ات للعالم، وهي دروس ينبغي أن تدرس في مناهج الكرامة وعدم الاستسلام. ففي عالم الفن، ينبغي أن تكون الجرأة قدرة تتجلى في استنباط القوة من الجروح، وبالتالي فالإبداع يحتاج إلى شجاعة لا تقل أهمية عن تلك التي تحتاجها المقاومة على الأرض.
في الطابق السابع من المعرض، عند المدخل، يتواجد نص يلخص ولادة الهوية العربية، إلى جانبه نص آخر يتغنى بما تملكه الجزيرة العربية من مناخ معتدل، مستهلًا باقتباسات للمؤرخ اليوناني هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، من كتابه “التاريخ”، الجزء الثالث، الفقرات 107 و113. في هذا السياق، يتناول النص الأول تطور الهوية العربية، ويعكس تجلياتها في الطابع الثقافي والتاريخي. بينما النص الثاني يتأمل في جمالية مناخ الجزيرة العربية وما تحمله من ثروات طبيعية، ومستشهدًا بالعبارة “بلاد العرب هي آخر الأراضي المسكونة من جهة الجنوب. إنها الوحيدة في العالم التي تنتج البخور والمر والقرفة والراصيني واللادن… ومن بلاد العرب كلها تفوح رائحة عطر سماوي”. ولكن أمام هذا الإعجاب، يسهو النص عن متابعة حقيقة تلك الهوية العربية، حيث يظل النص ناقصًا دون أن يُضيف أي تحديث أو يقدم إجابة عن حقيقة ما قدمه العرب لفلسطين منذ النكبة وحتى الوقت الحالي، بحيث يبقى هذا السؤال مشروع امام اهل الفن واصحابه/ صاحباته للإفصاح عنه.
ويقابل هذا النص على الحائط الآخر خريطة طُبِعَت لاستعراض الدول العربية وامتدادها، حيث ساد اللون البنفسجي على كافة الدول العربية بدلًا من اللون الأبيض الذي ساد على الدول الأخرى الأجنبية. ولكن ما يلفت النظر هو أولاً خارطة فلسطين والتي سادها اللون الأبيض، إشارة إلى أنها دولة غير عربية، باستثناء كل من الضفة الغربية وقطاع غزة التي بقيت باللون البنفسجي وكُتب عليها “الأراضي الفلسطينية”. وثانياً، فإنه يُلاحَظ أن القائمين/ات على المعرض قد أغفلوا حقيقة أن الخريطة التي اعتمدوها تم اقتطاع الجزء الجنوبي من خريطة لبنان، والذي يتضمن المناطق الجنوبية التي كانت ترزح تحت وطأة احتلال العدو الإسرائيلي، وضموها إلى الأراضي المحتلة من فلسطين علما انها أراض لبنانية محررة منذ العام 2000 وما لم يتحرر منها حتى اللحظة هي تلال كفرشوبا ومزارع شبعا. هذا وتأتي سردية الخريطة اجمعها بدون جرأة الإفصاح عن هوية المحتل وتوضيح للزوار والزائرات حقيقة ما قد لا يتضح لهم/ ن أو يُفهَموه.
ولكن ماذا لو غفل الفن عن واقعنا؟
نجوب المعرض بسلام، بعكس كل الفوضى والحروب الحاصلة في أروقة بلادنا، بين صور ولوحات فنية تنتشر على جدران المعرض، وإن كان ليس كل ما في المعرض هذا يلبي توقعاتنا، خاصة وأننا أبناء وبنات أرض فلسطين والجنوب اللبناني، محملين/ات برائحة البارود والقذائف وكل ما عايشناه من قهر الاحتلال. فبعض هذه الصور واللوحات المصفوفة هنا تلامس ذاكرتنا، فتنشر فيها الشظايا وتؤلمنا. هنا، أتوقف عند صورة لأطفال نائمين على ضوء شمعة، وأنا في ذاكرتي طفلة تخاف الحرب وصوت الطائرات الحربية. اما في صورة أخرى، أغرق في عيني فتاة في وسط الحشود النازحة لوقت، ولا أعلم من بكى الآخر في تلك اللحظة. وهنا صورة وشعر لمحمود درويش شاعر الجرح الفلسطيني بفكر وكلمة لا تموت كانت كرصاص البندقية في وجه المحتل بحيث يستحيل التحدث عن شعر درويش دون ان يرتبط بدلالاته السياسية والتي بالتالي جعلت منه رمزا وهوية ثقافية فلسطينية حفظنا العديد من قصائده عن ظهر قلب بالرغم من الجدالية والانتقادات التي طالته من الفنان ناجي العلي ونقاد عرب وناشطين/ات وفنانين/ات اعتبروه خرج عن حدود القضية الى رؤية إنسانية واسعة الا انه بقي لدى مجتمع العدو الإسرائيلي رمزا للشاعر الفلسطيني. ولكن لم تكن صورة درويش وشعره ²أقول كلاما كثيرا² الذي اعتمدها المعرض فقط ما قدمته فلسطين الى العالم فهنالك أيضا صور وأفكار اكثر جرأة وشجاعة.
العديد من اللوحات التشكيلية تكشف عن ممارسات المستعمر والمحتل وتمضي بدون الكشف عن هويته، فلم تكن كافية بالقدر الذي توقعناه، خاصة أنها جاءت في فترة يعيش فيها قطاع غزة كل أشكال الموت والابادة الجماعية في فترة نحتاج فيها الى الصراخ باسم ذلك المحتل والقاتل وفضح جرائمه التي يرتكبها يوميا ليخنق كل ما على هذه الأرض من حياة، دون ان نتنكر لهويته. فالفن هنا، وبرغم من أنه يظهر في أبهى صوره وجماليته، الا انه يحمل في الوانه جمالية تخفف أحيانًا من حدة الرعب والمأساة على الزائر/ة لتنتقص من شعور القهر في الحقيقة وفي واقع مرير نعيشه.
فان كان الفن، كلغة معبّرة، يلمس أوجاع الشعوب ويحاول تجسيد الواقع بألوان الأمل والإبداع من خلال المعرض وأعماله، الذي يسعى فيه الفنانون والفنانات لتجسيد الحروب الفلسطينية بشكل يجمع بين الجمال والواقعية التاريخية، إلا ان السؤال يبقى فيما مدى قد يتهاون اهل الفن والمعارض عن حجم المشهد القاسي ويقلل من شأنه احيانا، وتراه هذا نتاج الخوف من صورة قد تخدش وجدان زائر أو زائرة لم يعايشوا الحرب ام إنه في حقيقة الامر سياسات خانقة تخنق الفن الجريء بكل مكوناته؟
بالتأكيد، ولا شك أن للسياسات القمعية تأثيرًا كبيرًا نراه في الفن التشكيلي المعاصر والحديث، خاصة الذي يرتبط بقضية فلسطين. فالفن في أعماقه يعبر عن صراع الشعب الفلسطيني ومقاومته ضد الظلم والاضطهاد، وقد وجد الفنانون والفنانات الفلسطينيين/ات في الفن التشكيلي عبر التاريخ وسيلة للتعبير عن نضالهم/ن المستمر، بحيث فقد بعضهم/ن حياته/ا بسبب التزامهم/ن الشديد في تسليط الضوء على هذا الواقع. ولهذا يُعَدّ الفن أداة احتجاجية ومقاومة للفكر الصهيوني الإسرائيلي، وهذا ما يؤكده على سبيل المثال نجاح الفنان ناجي العلي في تجربته التوثيقية والتحريضية، من خلال عمله “حنظلة”، في إيجاد حالة وعي ليست مقتصرة على الواقع الفلسطيني. ليتحول “حنظلة” الى عمل ليس فني فقط، بل الى رمز وهوية فلسطينية تعيش معنا ونتناقلها من جيل الى جيل نرمز من خلاله الى كل الخيبات السياسية المتتالية التي صنعها العرب، وكل ذلك الكم من القهر والاضطهاد الذي يرتكبه المحتل الاسرائيلي.
اذن، فمع تزايد قمع الحريات ان كان في الداخل الفلسطيني بسبب الاحتلال الإسرائيلي وممارساته الصهيونية او في الخارج، لا سيما مع بروز قمع الحريات في الدول الأوروبية التي لطالما تباهت بانفتاحها وحرياتها الا ان الاقنعة سقطت عن أنظمتها السياسية لتبان انيابها القامعة والخاشية لحقيقة الصورة والمجازر التي ترتكب يوميا في قطاع غزة ضد الفلسطينيين/ات، فلا بد هنا ان نخشى على حرية الابداع والفكر الفني الحديث والمعاصر ان يتلاشى وفقا للسياسات المنتهجة في العالم. ولذا لا بد من ان نخاف على هوية فلسطين ونشعر بالخيبة عندما نجول في معرض فني معاصر تسود كل اشكال السلام مقارنة مع المجازر والابادة وكل اشكال الخوف والرهبة في كشف هوية المحتل. فلعل ما كنا ننتظر رؤيته ليس فن يحمل البلاغة والابداع، على قدر رؤية صورة حقيقية تلصق على جدران ذاك المعرض الباريسي – العربي المليء بالسلام ليشعر العالم بالخزي والعار لما لم تستطع كل هذه الأمم والدول مجتمعة ان تقدمه لفلسطين.