كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:
هي أربع سنوات مرّت على ذاك الـ»17 تشرين». كأنها دهرٌ. كأنها البارحة. صيحات الـ»هيلا هو» التي دوّت في الساحات ما زالت تُطرِب آذان البعض بين الفينة والأخرى. ومشاهد الشباب والشابّات – المتحمّسين والمتحمّسات – يتنفّسون «ثورة» على إيقاع أحلام التغيير، تحضر أحياناً. الشارع، للحظات، وحّد اللبنانيين، على اختلاف مشاربهم، فخُيّل إلى الحالمين إضاءة شمعة أمل… ما. لكنّ السنوات الأربع، بتواريخها ومفاصلها ومكْر فارضي أحداثها، كان لها رأي آخر.
حراك، انتفاضة، أو ثورة لا يهمّ. ما يهمّ، رغم «منجزات» متناثرة هنا وهناك، أنّ ما بَقِيَ يُختصر، حتّى من قِبَل البراغماتيين، بذكرى وحنين. صحيح أنّ الساحات دُمّرت، والخيم أُحرقت، والمجموعات تشرذمت، والظروف تكالبت من كل حدب وصوب. لكنّ دخول 13 نائباً «تغييرياً» إلى المجلس النيابي كاد يشي، للآملين خيراً، بـ»مومينتوم» من نوعٍ آخر. إلى أن تشتّتوا. محزنٌ ضياع الأمل ومؤسفٌ الغرق في الإخفاقات؟ بالطبع. فلنتذكّر أبرزها على لسان حزبيّين ونقابيّين، وزراء ونوّاب، ناشطين ومحلّلين. لعلّها تكون عبرة واستفادة لثورة ما… يوماً ما.
نوّاب التغيير
نبدأ بالإخفاق – أو خيبة الأمل – المرتبط بأداء بعض نوّاب التغيير أنفسهم. فقلّة اكتراثهم – كي لا نقول التزامهم – تجاه القاعدة التي دعمتهم، والإعلام الذي واكبهم، والمواطن الذي، بفضل صوته وثقته، أوصلهم إلى الندوة البرلمانية، أكبر من أن تعفيهم من المسؤولية. نفهم أن ثمّة ظروفاً ضاغطة، داخلية وخارجية، تحتلّ الحيّز الأبرز من اهتمام كثيرين الآن. لكن أن يتجاهل ستة منهم اتّصالاتنا ورسائلنا ويعتذر ثلاثة آخرون عن المشاركة، يدفعنا للتساؤل ما إذا كان ما سمعناه من أحد الناشطين صحيحاً: «استغلّوا طاقاتنا وتسلّقوا على أكتافنا إلى أن وصلوا… بعدها تركونا في منتصف الطريق، وحيدين في الساحات، حيث مات الحلم الذي أودعناهم ثقتنا لإكماله من على المنبر الذي أوصلناهم إليه».
تشرذُم وأزمات… دون قيادة
فماذا يقول من تجاوَب منهم؟ النائبة بولا يعقوبيان اعتبرت أن الثورة تستمرّ بغضّ النظر عن ممارسات نوّابها، لكن لا شكّ أن الذين صوّتوا للوائح التغيير أصيبوا بخيبة كبيرة. «ليس المطلوب منّا تحقيق إنجازات بِقدر ما يجب أن نتوحّد لنحمي بعضنا بعضاً ونخلق تياراً واسعاً بوجه أحزاب السلطة وضدّ «كلّن يعني كلّن». لكننا فشلنا في ذلك، ما مكّن الأحزاب من «سحْب» بعض النوّاب منا يميناً ويساراً». أما النائب مارك ضو، فرأى أن الإخفاقين الأساسيين لـ»17 تشرين» هما غياب البرنامج المشترك وعدم رفدها بخلْق مجلس قيادي.
من جهته، أصرّ النائب ياسين ياسين على أن الثورة تعثّرت ولم تخفق، ذلك أن حصْد 440 ألف صوت تغييري ليس تفصيلاً. «غير أن تشتيت الرؤية عند المجموعات وامتصاص المنظومة الصدمة مكّناها من خرق تلك المجموعات وإفشال عملها. جائحة كورونا والانهيار الاقتصادي كان لهما تأثير واضح أيضاً. إضافة إلى أن نوّاب المنظومة ينتمون إلى أحزاب قادرة على تأمين الاستمرارية لعملهم، أما نحن فانطلقنا من وضْع رؤية جديدة لبلورتها في العمل البرلماني».
الـ»أنا» وقوّة السلاح
نقيب خبراء المحاسبة المجازين في لبنان، عفيف شرارة، رأى أن إيمان الإنسان بالعمل الذي يقوم به هو الأساس. «بُنيت الثورة على إيمان صحيح وقناعات ثابتة، لكن حبّ الأنا ومحاولات استغلالها من قِبَل البعض لغايات سياسية ومصالح شخصية، جميعها عوامل جعلتها تنحرف عن الهدف الذي انفجرت من أجله، ما أدّى إلى فشلها». من ناحيته، أشار نقيب المعلمين في المدارس الخاصة، نعمة محفوض، إلى أن «17 تشرين» لم تُخفق بل أجهزت عليها المنظومة من خلال إطلاق الرصاص على أعين المتظاهرين واستخدام القنابل المسيّلة للدموع وغيرها من الممارسات الوحشية. «هذا إضافة إلى ما قامت به مختلف القو ى السياسية لضرب الثورة التي هزّت عروش الجميع، بعكس ما كانت تدّعيه مِن دعْم وتأييد مزيّفَين. ثم يجب ألّا ننسى السلاح الخاطف للبلد الذي حرق الخيم وتعدّى على ثوّار الساحات، ما أدّى إلى هجرة ما يزيد على 250 ألف شاب وشابة وإخماد الثورة برمّتها».
الـ»وحشيّة» والمساواة بين «كلّن يعني كلّن»
بدوره، عزا رئيس جهاز الإعلام والتواصل في حزب القوات اللبنانية، شارل جبور، أبرز أسباب الإخفاق إلى غياب العنوان السيادي، على قاعدة أنه يمكن تحقيق الأهداف المرتبطة بإدارة الدولة بعيداً عن المسألة السيادية. فكانت النتيجة إجهاض الثورة على يد أكثر القوى المتضررة منها، المنتمية للخط الممانع. «ويتمثل الخطأ الثاني في وضع الجميع على مسافة واحدة تحت عنوان «كلّن يعني كلّن»، رغم أنه لا يمكن المساواة بين فريقي 8 و14 آذار، بين من هو سيادي ومن هو ممانع وبين من يعمل على مشروع الدولة ومن يسعى لتحقيق مشروع الدويلة». وينهي جبور بأنه كان من المفترض السعي لتوحيد مبادئ ثورتَي 14 آذار و17 تشرين، أي المطالبة بسيادة الدولة، من جهة، وحُسن إدارتها، من جهة ثانية، لإنجاح التغيير المنشود.
عضو المكتب السياسي الكتائبي ووزير الاقتصاد الأسبق، البروفيسور آلان حكيم، أكّد أن ثورة تشرين خلقت بداية وعيٍ عند اللبناني لجهة حقوقه المهدورة والسرقة المنظّمة التي يواجهها. «غير أن إخفاقها جاء نتيجة الردع المستميت من قِبَل أزلام المنظومة وهيكليّتها الأمنية، إضافة إلى الأخبار الملفّقة والهجوم الوحشي والمدروس على المتظاهرين. من دون أن ننسى وطأة الأزمة الاقتصادية المفتعلة لكبح غضب المواطن وإلهائه بتأمين متطلبات حياته اليومية. ويبقى السبيل الوحيد أمام المنظومة متمثّلاً بهدْر الوقت وتذويب الأزمات إلى حين نسيانها».
تعنُّت وتحرّكات «غير بريئة»
بالانتقال إلى حزب «سبعة»، الذي حاول تشكيل ائتلاف أيام الثورة ولم يُفلح، فقد لمّح على لسان أمينه العام، الدكتور حسن شمص، إلى شيء «غير بريء» كان يقف خلْف تحرّكات وقرارات كما مسيرة نوّاب التغيير. «لا نملك إثباتات واضحة حول انتماء البعض لسفارات أو مجموعات أو بلدان خارجية، لكن معظم القرارات التي اتُّخذت كانت ولا تزال غير مفهومة. ورغم تحذيرنا بأن المسار الذي يسلكونه سيؤدي حتماً إلى خسارة وإحباط مدويَّين، إلّا أنّ تعنّتهم وتمسّكهم بقراراتهم لا يزالان مجهولَي السبب».
وأضاف شمص أن خلْق مجموعات وهمية – تشكّلت قبل أشهر قليلة من الاستحقاق الانتخابي – وعدت البعض بالتمويل لخوض الانتخابات النيابية، في وقت كان البعض الآخر يدعو إلى تشكيل جبهة عريضة واحدة، دون أن يلقى أي تجاوب، إنما يطرح العديد من علامات الاستفهام. «هذا ما أوصل اللبنانيين إلى إحباط كامل وشامل بحيث أضحت فرصتنا الوحيدة للتغيير هي في انتساب أشخاص جدد يملكون فكراً تقدّمياً إلى الأحزاب القائمة، وذلك لإنشاء حالة جديدة داخل تلك الأحزاب».
تحاصُص وتمويل
إلى «بيروت مدينتي»، التي خاضت الانتخابات الأخيرة منفردة هناك، وتحديداً العضو السابق في مجلس المواطنين، طارق عمار. فقد أقرّ بنجاح الثورة في تحقيق بعض المعايير، دون أن تتمكن من تغيير السلطة وانتزاع حقوق غالبية الشعب اللبناني. «السبب الأبرز هو عدم تمكّننا من إنشاء تنظيم أو جبهة معارضة فعلية على الرغم من المحاولات الكثيرة. ويعود ذلك إلى تحويل السياسة في لبنان منذ العام 1975 إلى ميليشيات، ما أدّى إلى بروز جيل كامل لم يتلقَّ أسُس التنظيم والتطوّع والالتزام».
وبحسب عمار، فالاعتماد على الأطر الدستورية غير القابلة للتغيير في لبنان وفرْض قانون انتخابي سيّئ، كان لهما أثرٌ واضح على نتيجة الانتخابات، تزامناً مع عجز معظم المجموعات عن خوض المعركة الانتخابية وفق أسُس صريحة ومشروع سياسي واضح. وهذا أدّى إلى تشرذمها ضمن لوائح وتركيبات انتخابية في دوائر عدة. «الانتخابات لا تجري عبر تحاصُص بين مجموعات بلا عمل على تأسيس مشروع سياسي شفّاف. والدليل أن نوّاب التغيير انحرفوا عن الهدف الأساس، أي الاتحاد في إطار تنظيمي واحد، واتّجهوا إلى تكثيف الظهور الإعلامي من خلال تمويل غير معروف المصدر لكن لمصالح مدروسة».
غياب الرؤية والأساسيات
بالعودة إلى الخط الممانع، وصّف وزير الزراعة، عباس الحاج حسن، ما حصل في 17 تشرين بالحراك الذي لم يرتقِ إلى مستوى الثورة، ذلك أنه افتقد إلى أساسيات، كان من شأنه لو ارتكز عليها أن يتطوّر إلى مشروع قادر على وضع إطار جديد لمفهوم الدولة وكيفية الشراكة. «الإخفاق الأهم هو غياب رؤية موحّدة حول كيفية التغيير أو الإصلاح المنشود. ونتج عن ذلك الابتعاد عن مبادئ الوطنية والحوار والعيش المشترك والتوجّه إلى المنطق الكيدي. علماً بأن أي عملية إصلاح تبدأ بالجسم القضائي. فما بُني على قاعدة مهتزّة لا يمكن أن يستمرّ».
تخوين… طائفية وقادة بلا جنود
وإلى الساحات حيث انطلقت الثورة نعود. الناشط ابراهيم البسط يعبّر عن خيبة أمله في نوّاب التغيير الذين خذلوا الثوّار وما لبثوا أن دخلوا في لعبة السلطة بعد انتخابهم. «النوّاب ما كانوا قدّ الحمل… كنا نراهم دوماً معنا في الساحات أما الآن فكل ما نطالب به هو سماع صوتهم. حتى النائب ياسين ياسين هو أكثر من خذلنا في البقاع. كان رفيقنا الدائم في تحرّكاتنا وأمضينا الليالي الطوال معاً على الطرقات في السيارات. أين هو اليوم؟ اعتصم بحبل الصمت وأصبح كغيره بعد أن استغلّنا ليصل إلى المجلس». ويضيف البسط أن الثوّار عجزوا بدورهم عن التوحّد فكان الجميع يريدون التحوّل إلى قادة… بلا جنود. ويتابع: «ما زلت أتعالج نفسياً للخروج من التروما التي دخلت في دوّامتها. بقيت طيلة سنتين ونصف بعد الثورة في الشارع، خسرت عملي، سُجنت مراراً وتعرّضت لأبشع الممارسات. أما القيادات التي آمنّا بها فتركتنا في منتصف الطريق. لم نطلب منهم شيئاً سوى إكمال الحلم الذي بدأناه».
مقتحِمة المصرف، سالي حافظ، تذكرونها طبعاً. هي وصفت ما حصل بـ»تكالب» كافة الأحزاب السياسية على الثورة لأنها هزّت عروشهم وعروش زعماء الطوائف والحكومة. فراحوا يحوكون المكائد لإفشالها. ونذكّركم هنا بواقعة الراقصة «المدسوسة». أضف إلى ذلك سياسات التخوين ومنها اتهام «حزب الله» لبعض الجماعات بتنفيذ أوامر السفارات ما دفع المتأثّرين ببيئته إلى الانسحاب من الساحات. هذا عدا عن شدّ العصب الطائفي لتشتيت وحدة الصفوف. «عادة، حين يحصل الإنسان على حاجاته من مأكل ومشرب وأمان يبدأ بالبحث عن حقوقه. فخلْق الأزمات وضرْب كافة القطاعات كانا بمثابة مخطّط ممنهج لإلهاء الناس مجدّداً بالتفتيش عن لقمة العيش. أما العنف الذي مورِس في الساحات فجعل كثيرين يتساءلون: «ليش أنا يلّي بدي موت أو إخسر عيني أو إنصاب؟» وتوالت الانسحابات من الشارع».
الإخفاقات بعيون خارجية
الباحث في الأمن الدولي والإرهاب المقيم في ألمانيا، الدكتور جاسم محمد، شدّد على أن الانتفاضة لم تأتِ من فراغ بل كانت نتيجة تراكمات تاريخية شهدها لبنان. وقد زادت جائحة كورونا من تحدّيات نجاحها – ومن وتيرة تراجعها – لتليها كارثة انفجار المرفأ، ما انعكس على الوضعين الأمني والاقتصادي وحال دون تواصُل الزخم لدى المشاركين فيها. «إن إطالة أمد الانتفاضة دون تحقيق الأهداف أدّى إلى استهلاك الكثير من الشعارات، فأصبح المشهد أقلّ تأثيراً في الرأي العام. كما أن تسلُّل الأحزاب والجماعات المسلّحة التي اعترضت المتظاهرين وهدّدت سلامتهم كان له أثره هو الآخر. ناهيك بغياب استراتيجية واضحة ومرجعية سياسية موحّدة».
لإذكاء شعلة الحُلم
المحامي الدكتور جاد طعمه جدّد بداية دعوة الشباب لإذكاء شعلة الحُلم بمستقبل أفضل. «كانت تلك انتفاضة الشباب من أجل خرْق جدار الصمت والرتابة، ولم يكن الفضل في المشهدية والتعبئة الجماهيرية لأحد ممّن حاولوا ركوب موجة الطوفان الشعبي. فما قيل عن رفع رسوم الواتساب وعن مكائد مدبّرة بين المصارف والأحزاب لتهريب الأموال إلى الخارج وغيرها، جميعها روايات مشكوك بصحّتها». بعدها قامت السلطة التي هالها ما حصل باستغلال جائحة كورونا لخنق الشارع وقمْع محاولات الثبات في الساحات، دون إغفال غزوات بعض الأحزاب لتأديب المتظاهرين وترهيبهم.
حلْم قيادة الشعب والشارع دغدغ مشاعر أصحاب الطموح، لكن هذا الحلم وأدته الأعداد التي لم تعد تتجاوب مع دعوات النزول إلى الشارع. فعرف كل إنسان حجمه، والكلام لطعمه، الذي أسف لأن تكون تجربة الانتخابات النيابية بذاك القدر من تخييب الآمال. «التشتّت كان العنوان الأبرز، وكشّرت المصالح الشخصية عن أنيابها، وثبت خلال العملية الانتخابية أن الاغتراب اللبناني تأثّر بالمشاهد التشرينية، فكان الرافعة. لكن ثبت أيضاً وجود منصة احتكرت التمويل الانتخابي السخيّ وذلك بحسب تقرير شركة ألفاريز ومارسال المدقّق في حسابات مصرف لبنان. فاتّضح أن المنصة التي تأسّست على أيدي مصرفيين حظيت برعاية من حاكمية المصرف المركزي لأسباب مبهمة لم تتمّ مناقشتها حتى اليوم».
بين الأمل والألم
لكن، مع ذلك… «17 تشرين» وحّدت اللبنانيين بوجه سلطة سلاح وفساد وطائفية امتهنت تقسيمهم إلى شعوب ومناطق وطوائف؛ هي عرّت سلطة الفساد ونزعت عنها الشرعية في الداخل والخارج؛ وأسّست لخيار ثالث وطني محلّي خارج الاصطفافات التقليدية المرتَهنة إقليمياً؛ والأهم أنها كسرت احتكار الفضاء السياسي العام من قِبَل السلطة، وفتحت الباب على مصراعيه أمام نخب سياسية وكوادر جديدة توّاقة للتعبير عن ذاتها». بهذه الكلمات أرادت النائبة نجاة صليبا الإجابة عن سؤالنا حول إخفاقات ذلك الـ»تشرين». هي التي، رغم العثرات، ما زالت متمسّكة بالإنجازات. أملٌ أكّده النقيب محفوض حين اعتبر أن «17 تشرين» هي قضية شعب خامدة حالياً، لكنها لم تمت. وسيحين أوان الظرف المناسب كي ينتفض الشعب مجدّداً ويستعيد الوطن المخطوف من خاطفيه. أما عمار، فرأى أنّ لا بدّ من استيقاظ الجيل الجديد، كما الثورة، بوجه الطبقة الحاكمة، رافضاً أن يكون خارج سياق التغيير والتطوّر العالمي والبقاء تحت نير سلطة سياسية لا تستفيد من طموحاته وقدراته. من ناحيتها، ما زالت حافظ مؤمنة بأن الثورة فكرة، والفكرة لا تتلاشى طالما أن النظام يمعن في حرمان المواطن من حقّه.
لكن يبقى ثمة خوف – وأسف – لدى جبور من ألّا تعود الثورة بالحجم والزخم أنفسهما في حال تكرّرت. في حين فَقَدَ شمص الأمل بفكرة التغيير وإعادة تشكيل ائتلافات وخلْق الجوّ العام المؤاتي لتغيير السلطة، ذلك أن الفرصة التي أتيحت للبنانيين يصعب جدّاً أن تُستعاد. فاللبنانيون عادوا واصطفّوا ضمن أحزابهم بعد أن فقدوا الثقة بـ»17 تشرين» وجميع حيثياتها. أما الدولة والأحزاب فتداركت العِبر من المرة الأولى وأخذت احتياطاتها، مصحّحة خطاباتها، ما يزيد من صعوبة إعادة الكرّة. ففي حسابات أهل السلطة، الضربة التي لا تقتل… تقوّي.
وينهي طعمه بأن مجتمع «17 تشرين» يحتاج إلى الوضوح والشفافية. فآخر ما يريده المواطن هو استبدال فاسد بآخر وفاشل بأفشل منه. وهكذا، لن تقوم لهذا المجتمع قائمة مستقبلاً إلّا بعد أن يتصارح أولاً مع نفسه ويعيد ترتيب أولويّات الوطن ثانياً، دون إغفال وجوب الخروج بصيغة تجمع الشتات. «فطفرة المجموعات حوّلت انتفاضة تشرين إلى انتفاضات، وأداء نوّاب التغيير بسوادهم الأعظم يكسوه التفرّد والطيش، ما انعكس إحباطاً على المستوى العام وخذلاناً للثقة التي منحهم إيّاها الداخل والاغتراب اللبنانيان. كل ذلك يشكّل، بلا ريب، خدمة مجانية لمستقبل أهل المنظومة السياسي… مع الأمل في أن تكون الخدمة تلك جهلاً لا قصداً».
قد يقول البعض إن ما استتبع «17 تشرين» (ولا يزال يتوالى فصولاً) من أحداث، وويلات، داخلية وخارجية أحالها إلى رفوف التاريخ وجعل الحديث عنها مجرّد إنشاء فارغ. سواء أوافقنا على ذلك أم لم نوافق، هناك حقيقة ثابتة. فواقعنا الذي من رحمه خرجت تلك الحالة باقٍ ويتمدّد. وفي أعماق طياته بذور انفجار مماثل نتركه رهناً بالمستقبل.