فحص كل “هريسة” في الضاحية: الخوف من عملية تسميم

تنتظر السيدة الأربعينية هدى (وهو اسمها المستعار لأسبابها الخاصة) ذكرى عاشوراء سنوياً. فما إن يُقبل الأول من محرم حتى تبدأ بمهامها الإنسانية التي اعتادت عليها منذ سنوات كثيرة. فتفرغ كل طاقتها في جمع التبرعات من صديقاتها، بغية توزيع الطعام والشراب والهريسة على سكان منطقة المريجة.

فحوص مخبرية

هذا العام تحديداً، ونتيجة الأزمة الاقتصادية المستمرة، وتحليق أسعار السلع الغذائية، احتاجت إلى أكثر من أسبوع لتتمكن من جمع التبرعات على نحو كافٍ لتحضير الهريسة. وبعد اكتمال المبلغ المادي المطلوب، وضعت القدر الكبير أو ما يعرف بـ”الدست”، (استعانت به من متجر متخصص في تقديم قدر الهريسة مجاناً شريطة إرجاعه في اليوم التالي)، بالقرب من مدخل منزلها. وتجمعت النساء لمعاونتها ومساعدتها في عملية التحريك التي تدوم لساعات طويلة بشكل متواصل.

دقائق معدودة، حتى اقترب “العنصر الأمني” بلباسه الأسود، واضعاً نظارة سوداء اللون، ومنعها من توزيع الوجبات على السكان بعد انتهاء طبخها الهريسة، قائلاً: “نحن بحاجة إلى “عينة” من هذا القدر لإجراء بعض الفحوص المخبرية عليها، بغية التأكد من جودتها قبل توزيعها. لذلك، ممنوع عليكن توزيعها على السكان قبل أن نعلمكن بنتيجة الفحوص المخبرية..”.

عبارته الواضحة والصريحة، كانت كفيلة بإثارة غضبها، وهي التي اعتادت على توزيع الأطعمة على المارة بشكل سنوي. فهي ابنة هذه المنطقة، وعلى علاقة طيبة بالسكان. وبعد استنكارها هذا المطلب الذي اعتبرته غير منطقي، أوضح لها الشاب مرة أخرى، بأن “الأمة تتعرض لمؤامرة خطيرة، ويستوجب علينا حماية أهالي المنطقة، علماً أن هذه الإجراءات ليست شخصية، وطُبقت على الجميع من دون استثناء، وليست دليلاً سوى على حرصنا على أهالي المنطقة من أي خطر..”.

إجراءات استثنائية

بعد سجال طويل، أُخذت العينة من القدر، ليتبين لاحقاً أن هذه “القوانين” تطبق على جميع السكان، الذين يتجهزون لتحضير الأطعمة لأهالي المنطقة، لسبب أساسي وهو “الخوف الواضح من أن تُدسّ السموم في هذه الأطعمة المجانية، مما يؤدي إلى حالة تسمم كبيرة في منطقة الضاحية الجنوبية”، وفق روايات عن نية مجموعات إرهابية بتنفيذ ذلك.

انطلاقاً من هنا، وتجنباً لهذا الأمر، فإن مجموعة من الشبّان أوكل إليها منذ الأول من محرم، مهمة واحدة فقط، تقضي بتجميع المعلومات عن كل فرد يتجهز لتحضير الهريسة، فيتجهون نحوه، ويأخذون عينة صغيرة من قدره، فتُعرض على مختبرات خاصة. وخلال مدة قصيرة، تظهر نتيجة الفحوص ويسمح له بعدها بتوزيعها كيفما يشاء.

في الواقع، وحسب معلومات “المدن”، فإن المنطقة لم تشهد مثل هذه الإجراءات في السنوات الماضية، ولذلك كان مستغرباً تكثيف الإجراءات الأمنية على الأهالي. وقد علمت “المدن” بأن هذا التشديد أتى نتيجة حالة من التسمم تعرّض لها أهالي العراق عام 2022، حين أقدمت مجموعة من “الدواعش” على وضع بعض المواد السامة داخل قدر الهريسة، مما أدى إلى انتشار حالة من التسمم بين الأفراد آنذاك.

هذه الحالة، كانت كفيلة بزرع الخوف داخل ح ز ب ا ل ل ه، الذي كثّف إجراءاته الأمنية على مداخل الضاحية الجنوبية، إلى جانب بعض التدابير “الصحية”، وذلك تجنباً لحدوث أي حالة مماثلة لحالة التسمم التي حصلت في العراق سابقاً.

في واقع الأمر، كان لافتاً ارتفاع نسبة مشاركة أهالي الضاحية الجنوبية في تجهيز الأطعمة وتوزيعها على بعضهم بعضاً هذا العام. إذ اتجه الكثير منهم للمشاركة في تحضير الهريسة، على اعتبار أنها تصنف من أهم الوجبات الغذائية التي توزع في هذه المناسبة، فهي تضم جميع العناصر الغذائية التي يحتاجها الفرد.

تكاليف باهظة

في حديثنا مع هدى، شرحت لـ”المدن”، بأنها تتعاون مع صديقاتها على جمع التبرعات لشراء جميع احتياجات الهريسة في كل عام، فهي بحاجة إلى الكثير من المواد الغذائية لتحضيرها ومنها: “القمح، اللحم الأحمر، الدجاج، الزيت النباتي، السمن، والكثير من المطيبات..”، إضافة إلى صناديق من العلب البلاستيكية، وقدر كبير وقارورة من الغاز.

يعني هذا، أن تكلفة تحضير قدر من الهريسة، لا تقل عن 300 دولار أميركي، مما يقارب 30 مليون ليرة لبنانية، وترتفع التكلفة لتصل إلى أكثر من 600 دولار أميركي. إذ يبلغ سعر الكيلو الواحد من القمح حوالى الدولار الواحد، ويصل سعر كيلو لحم الغنم الأحمر إلى حوالى 25 دولاراً أميركياً، أما الدجاج فلا يقل عن 700 ألف ليرة لبنانية للكيلو، هذا عدا عن تكلفة السمن والزيت والغاز والعلب البلاستيكية لتعبئة حصة كل بيت. وبالتالي، فإن القدر الواحد يحتاج حوالى 25 كيلوغراماً من القمح والدجاج واللحم لتجهيز وجبات تكفي حوالى 200 شخص.

لذلك، انطلاقاً من ارتفاع تكلفة تحضير الهريسة، تلجأ النساء إلى جمع هذه التكلفة من بعضهن بعضاً. كذلك، فإنهن يعتمدن على بعض التبرعات التي تصل من الجالية اللبنانية في الخارج، وبعدها، توزع الأطعمة وتقام مجالس العزاء حتى ذكرى الأربعين من عاشوراء.

في المقلب الآخر، على امتداد الشوارع الرئيسية المؤدية للضاحية الجنوبية، يتجمع الرجال لتحضير الهريسة، وبلباس أسود وبعصبة حمراء مربوطة على الرأس، تبدأ عملية التحريك التي تدوم لساعات طويلة، فتغص بعدها الشوارع بالسكان الذين يتجمعون للحصول على هذه الوجبات.

في الخلاصة، يمكن القول اليوم بأن حرص ح ز ب ا ل ل ه على حماية بيئته وتكثيف جهوده الأمنية مع محازبيه يثبت اليوم أنه ليس مطمئناً لما يحيط به، وبحاجة إلى إعادة فرض سيطرته الأمنية من جديد، خصوصاً بعد سلسلة من الحوادث والاشتباكات وتفلت العصابات التي شهدتها الضاحية الجنوبية.

المدن

شاهد أيضاً

طلاب من البقاع الغربي يشاركون بابتكارات بيئية في مؤتمر المناخ كوب 29 رغم التحديات

رغم الاضطرابات والبنية التحتية المدمرة في لبنان نتيجة القصف الإسرائيلي، يشارك طلبة مدرسة ثانوية من …