لفت مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان أننا محاصرون، وليس في شعب واحد، بل في شعاب، محاصرون في شعبة المحروقات، ومحاصرون في شعبة الدواء، ومحاصرون في شعبة الغذاء، ومحاصرون في شعبة الوباء، ومحاصرون في شعاب لا تكاد تحصى، وأولها وأهمها أنه ممنوع علينا أن تكون عندنا حكومة، يمكن أن تدير شؤوننا، وتخرجنا من الندرة، ومن أهوال الجوع والفقدان ، سائلا:” فهل الحالة التي نحن فيها تستدعي الهجرة؟”.
وقال في رسالة إلى اللبنانيين لمناسبة السنة الهجرية الجديدة أن عشرات الألوف من الأكفياء الأذكياء فارقوا لبنان خلال العامين الماضيين، فازددنا بؤسا وفقرا. لذلك، ورغم شبه حالتنا بحالة المستضعفين في شعب مكة، إنما يبدو أننا نحن اللبنانيين الذين دأبنا على الهجرة منذ قرن ونصف، ما استطعنا القيام بما قام به مهاجرونا الأوائل، خلال بضعة أعوام . لقد بحث المهاجرون الأولون من المسلمين عن معنى جديد لحياتهم فصنعوه في المدينة المنورة، ثم عادوا فأعطوا هذا المعنى لمكة المكرمة التي صارت بالبيت الحرام، مثابة للناس وأمنا. فمن الذين يحاصروننا في لبنان اليوم، ومن الذين يريدوننا أن نهاجر ولا نعود؟ إنهم هم أنفسهم الذين يضنون علينا ومن أموالنا بالغذاء وبالدواء وبالمحروقات، بل ولا يسمحون بتشكيل حكومة أو جهة يمكن لنا التوجه إليها بالسؤال والمحاسبة، أو حتى بالشكوى !ماذا يريد الذين يحاصروننا منا إذن؟”
ورأى دريان أنهم يريدون ألا نتمسك بوطننا وبمجتمعنا، وبعيشنا المشترك، وبالمعنى الكبير للبنان الرسالة. راقبت قبل أيام عشرات الآلاف من شباب لبنان وشاباته، وشيوخه وأطفاله، وهم يجتمعون بالمرفأ ومن حوله، ينعون من فقدوا، ويعلنون التصميم على مطالب العدالة. وهم بذلك يعلنون الإيمان بوطنهم، ويطلبون الأمانة والثقة في إدارة شؤونه، ويفتقدون الإحساس بالمسؤولية، من جانب أولئك الذين يعتزون بالسيطرة عليهم، وسأل:” فهل هي سيطرة من أجل الإفقار والتهجير؟”.
وتابع: “في ذكرى الهجرة النبوية، يكون علينا أن نتذكر أن المهاجرين الأوائل، ما كان عددهم يزيد على بضع مئات، وكانت الكثرة بمكة ضدهم. أما نحن في لبنان، فإن السواد الأعظم من شعبنا هو تحت المعاناة القاتلة، ولا يمكن لشعب بكامله أن يهاجر. ثم لن نترك ديارنا التي نحب، وعيشنا المشترك الذي نرغب فيه، واعتدنا على مناعمه. إن الشباب المتظاهرين بالمرفأ قبل أيام، جددوا لدينا الأمل في البقاء، من أجل الإنقاذ، ومن أجل التغيير، ومن أجل الاستبدال . كان الصالحون من كبارنا – عند اشتداد الأزمات – يصرخون متوجهين إلى المولى عز وجل: يا رب غيره ! وعندما يتوجه المرء لربه مطالبا بالتغيير، فهو إنما يسأل الله عز وجل، أن يعينه هو على التغيير : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إن معنى هذا كله، أن التغيير يعتمد علينا. وهذا ما تقوله الآية القرآنية؛ وقاله لنا المجتمع الدولي، في مؤتمر باريس يوم الرابع من آب الحالي. وقاله الرئيس الفرنسي، وقاله وزير الخارجية السعودي، وقاله كل الحاضرين في المؤتمر الفرنسي الثالث، للتضامن مع الشعب اللبناني المنكوب، نعم المنكوب بقياداته السياسية ومسؤوليه”.
وطالب بتشكيل الحكومة، حكومة الإنقاذ التي يريدها اللبنانيون والمجتمع العربي والدولي، هي بداية حل آلام المواطنين وعذاباتهم، والأزمة اللبنانية، حلها بيد اللبنانيين، فهم الذين يعانون عدم توافر أسباب العيش الكريم، وقال:” لذا عليكم أيها المسؤولون أن تقدموا مصلحة لبنان على كل مصالح الآخرين، وأي كلام غير هذا، مضيعة للوقت، وإلهاء للناس، الذين يتخبطون في أزمات معيشية واقتصادية وأمنيه أحيانا، والدولة والسلطة الحاكمة، تتحمل مسؤولية ما وصل إليه الوضع في لبنان، من اهتراء وانهيار أطاح بكل مقومات الحياة الكريمة. الفساد يعم البلاد، والإصلاح يتطلب جهودا كبيرة من الحكومة العتيدة، التي نأمل أن تشكل خلال أيام قليلة، فالتأخير في التشكيل، يدفع ثمنه المواطنون جميعا، من حياتهم وأرزاقهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وهذا خطر على كيان الدولة التي تكاد تلفظ، أنفاسها الأخيرة، ومع هذا يبقى الشعب اللبناني صابرا محتسبا، يحمل في نفسه ثقة لا تزعزعها الأنواء، ويبقى في قلبه صبر وإيمان بأن الحق سيعلو، وأن الوطن سينهض، وأن ما تقدمه الدول الصديقة من جرعات دعم وعد بها لبنان في مؤتمر الدعم الدولي المنعقد أخيرا سيكون أول الغيث”.
وتابع: “فيا مسؤولي لبنان ويحكم ماذا فعلتم بلبنان وماذا تنتظرون لإنقاذ بلدكم؟ أما كفاكم تلهيا بخلافاتكم، وتنازعا على مكتسباتكم وحصصكم؟ أين المسؤولية الوطنية؟ أين المبادرات الفورية والعاجلة لإنقاذ اللبنانيين الذين جنيتم عليهم، وأدخلتموهم في نفق الذل والهوان، أين أنتم؟ بل أين هي المسؤولية منكم؟، لا يسعنا إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل”.
كما أكد أن لا مكان للفتنة بين المسلمين في لبنان، كما أنه لا مكان للفتنة بين اللبنانيين، رغم تنوعهم السياسي والفكري، فلبنان أمانة هذا الشرق العربي ورسالته، وما حصل خلال الأيام القليلة الماضية، يحتاج إلى كثير حكمة ورجال، ودولة تعي المخاطر التي تهدد وجودها والكيان، فالاسرائيليون، لا يميز بين اللبنانيين ولا بين مناطقهم.