في زمن باتت فيه الهجرة هاجسًا جماعيًا، والبحث عن مصدر للعملة الخضراء مسعًى يوميًا، تتلقّى المؤسسة العسكرية آلاف طلبات التطوّع. إنها مفارقة غريبة في زمن اليأس والإحباط، زمن انهيار مؤسسات الدولة وعملتها، وانحدار مستوى عيش العاملين في القطاع العام إلى ما دون الحضيض!
ما الذي يدفع الشباب إلى التطوّع في الجيش اليوم؟
سؤال تستحق الإجابة عنه دراسة جدية، وهو يستدعي عدة فرضيات. لكنّ المقاربة السريعة والأقرب إلى الواقعية تشير إلى أمرين أساسيين. الأول هو درجة الأمان الذي ما زالت المؤسسة العسكرية قادرة على توفيره للمنخرطين في صفوفها حتى بعد تقاعدهم، والثاني هو أنّ ثمة شبابًا ما زالوا يراهنون على أنّ الأمور سوف تتحسن في وطن يريدون أن يعيشوا ويربوا أولادهم فيه. وطن تنبض قلوبهم بحبه منذ الصغر وتمثلّه بزة ارتداها الكثير من أهلهم، وها هم يسيرون على الطريق نفسه، وكل منهم يردد: خيارنا الالتزام.
في معهد تدريب الأفراد في عرمان، تروي الساحات حكاية أمل ما زال ينبض في القلوب، وتؤكد أنّ الجيش رغم مأسوية الأوضاع ما زال قادرًا على جذب الشباب إلى صفوفه، وعلى تعهدهم بالرعاية والتدريب ليكونوا كمن سبقهم درع لبنان وسياجه.
صوت الواجب أقوى من كل الأصوات
الأوضاع الاقتصادية المتردية التي يمر بها الوطن والتي أرخت بظلالها على رواتب العسكريين، لم تحل دون اندفاع الكثيرين من الشباب للتطوّع في المؤسسة العسكرية، ولدى قيادة الجيش حاليًا ٢٥ ألف طلب تطوع لشباب بينهم من ترعرع في بيئة عسكرية رسّخت في نفوس المنتمين إليها حب الوطن والجيش، والإيمان بالدولة. وقد حان الوقت لترجمة هذه المشاعر تجاه العمود الفقري للدولة، المؤسسة العسكرية التي تقف إلى جانب عسكرييها وعائلاتهم. فالضمانات التي تقدمها خصوصًا الطبية منها والاستشفائية، جعلت الكثيرين ينخرطون في صفوف الجيش ويلبّون نداء الواجب لمواجهة التحديات بدلاً من ترك البلد لمصيره والسفر إلى جهة مجهولة. بالنسبة لهؤلاء ” بالنهاية ما في إلا الدولة…” والدولة لن تنهض إلا إذا التفّ أبناؤها حولها.
على مساحة ٤٠٠ ألف متر مربع تنتشر منشآت معهد تدريب الأفراد الذي يضج بصيحات مئات المتدربين من الدفعة الجديدة التي التحقت مؤخرًا، هؤلاء يخضعون لدورة تنشئة بدنية وعسكرية وتقنية تؤهلهم للانخراط في الحياة العسكرية التي كانت حلم الطفولة لمعظمهم وفق ما أكدوا لنا حين سألناهم عن دوافع التحاقهم بالجيش في ظل هذه الأوضاع. لكن قبل أن ننصرف إلى أحاديثهم وحكاياتهم، لا بد من لمحة عن هذا المعهد الذي يودّع الشباب عندما يدخلونه نمط الحياة الذي اعتادوه، ليدخلوا “عالم العسكر” بقوانينه وتحدياته، وينطلقوا من ثم إلى ميادين الخدمة عسكريين يعلو في داخلهم صوت الواجب على كل الأصوات.
يشرح قائد معهد تدريب الأفراد العميد الركن محمد ضاهر المهمات المناطة بالمعهد، وهي استقبال العسكريين والمجندين الممددة خدماتهم على صعيد وحدات الجيش كافة وتدريبهم وإعدادهم كمقاتلين في القوى المسلحة، من خلال تدريبهم على احترام النظام والتقيد بالانضباط والطاعة للرؤساء وتطبيق القانون، وتنمية لياقتهم البدنية وتدريبهم على استخدام السلاح، وترسيخ القيم الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان في نفوسهم. وهو يشهد حاليًا التحاق دفعات متتالية تمضي كل منها شهرين فيه قبل أن تتخرج وتلتحق بالقطع.
دفعة تتخرّج وأخرى تلتحق
فيما كانت إحدى دفعات المتطوعين على وشك إنهاء تدريباتها في المعهد التحق فيه خلال شهر آذار الماضي، ٥٦٢ شابًا تطوعوا لصالح الألوية في الجيش. وكما يجري عادة، كان في استقبالهم عندما وصلوا ضباط ورتباء اللفيف الذين سيواكبونهم طوال فترة التدريب. وبعد التعارف والتأكد من عتادهم الشخصي، توزعوا إلى مجموعات للتعرّف إلى غرفهم ومكان نومهم وأسرّتهم وخزانة أغراضهم. بعد ذلك، قاموا بجولة ميدانية للتعرّف على أقسام المعهد والجولات القتالية وساحات التدريب… قبل أن يتم توزيعهم على سرايا تدريب (السرية ١٠٠ شخص تقريبًا).
يشير قائد المعهد العميد الركن محمد ضاهر إلى أنّ اليوم الأول يكون مضنيًا عادة، ويوضح: “نضطر إلى مخاطبتهم بلغتهم في بداية الأمر لكسر الحواجز بيننا وبينهم. وهم يدركون منذ اللحظة الأولى لدخولهم المعهد ولغاية انتهاء التدريب أنّ الهدف هو الانتقال من الحياة المدنية والانصهار في الحياة العسكرية”.
في اليوم الثاني، تبدأ التمارين الجدية وفق برنامج يومي على مدى شهرين من التدريب الذي يركّز على ثلاثة أمور أساسية من بديهيات الحياة العسكرية، وهي: النظام المرصوص الذي يُعتبر عصب الحياة العسكرية نظرًا لارتباطه بالانضباط، مادة علوم الأسلحة التي ترافق العسكري في يومياته، والقتال الفردي ضمن المجموعة الصغرى. هذا في الأساس، أما في العموميات، فيتضمن المنهاج التدريبي التنشئة في الأنظمة والقوانين (النظام العسكري العام)، التنشئة البدنية (رياضة صباحية، تمارين سير، جولة المقاتل، رياضة إجمالية، قتال حراب). كما يتضمن محاضرات عن دور المؤسسة العسكرية على الصعيد الوطني والإنمائي والقانون الدولي الإنساني ومحاضرات توعوية في مواضيع مختلفة مثل: المخدرات (مكتب مكافحة المخدرات)، قوانين السير والقيادة السليمة (مؤسسة اليازا)، الإسعافات الأولية (الصليب الأحمر اللبناني)، أصول التغذية السليمة (اخصائية تغذية من طبابة الشمال)، إلى بعض المواد التثقيفية.
جنود للوطن
يؤكد قائد المعهد أنّ الدورات المتعاقبة التي تخرّجت من المعهد تفتخر بها المؤسسة العسكرية، والفضل يعود إلى المدرِّبين الذين وضعوا كل إمكاناتهم بتصرّف المتطوّعين الجدد وسهروا على تدريبهم فكانت النتيجة جنود في خدمة الوطن.
وتمنى العميد الركن ضاهر من أجل فاعلية التدريب في المستقبل استحداث غرف للمداهمة وملاعب للإعداد البدني. وشكر قائد الجيش على اهتمامه الدائم بمعهد تدريب الأفراد ووضعِه ضمن أولوياته نظرًا إلى الإقبال على التطوّع في الجيش.
ماذا عن الصعوبات؟
خلال جولتنا في أرجاء المعهد التقينا العقيد الركن أحمد عبد الرزاق (قائد لفيف تدريب الاختصاصات)، سألناه عن الصعوبات التي تواجه تدريب المتطوعين الذين ما زالوا حديثي العهد بالحياة العسكرية، فأشار إلى الصعوبات التي تعترض التدريب خصوصًا في الأيام العشرة الأولى. وهي تتعلق بمجملها بصعوبة تنفيذ تمرين المرصوص وكيفية استعمال السلاح لأول مرة. ويقول: «في البداية يكون عودهم طريًا، لذا نتساهل معهم بعض الشيء ريثما يتحقق الانتقال من المحيط العائلي إلى واقع أكثر قساوة يسوده الانضباط واحترام القوانين». ويشدّد العقيد الركن عبد الرزاق على أنّ الهدف من التدريب تخريج مجندين أكفّاء يخدمون في قطع مقاتلة متأهبة دومًا لتأدية مهمات صعبة على الأرض.
سوف أخبر أمي!
يخبرنا العقيد الركن عبد الرزاق ضاحكًا عن حوادث تحصل في الأيام الأولى للتدريب، ففي أحد الأيام مثلًا أتى إليه مجند وقال له: «أمي قالتلي إذا قسيو عليك بالتدريب خبرني»… هذا المجند خرج من المعهد رجلًا واثقًا من نفسه وقدراته وفي أتم الجهوزية للقيام بواجبه. لا مجال للمزاح هنا. وفي حادثة ثانية، وبينما كان ينتظر حضور المجندين إلى مائدة الغداء لمح اثنين منهم يأكلان الشوكولا والتشيبس، فقد كان صعبًا على البعض التأقلم مع الوجبات التي يقدمها المعهد. استدعاهما وشرح لهما أهمية التغذية الصحية في مرحلة التدريب القاسي، وأهمية قدرة العسكري على التكيّف مع الظروف والتي قد يكون تناول طعام نكرهه ترفًا في ظلها.
يعتمد العقيد عبد الرزاق اللطف مع المجندين في المرة الأولى لاستيعاب مخاوفهم ولتذليل العقبات، ولكن لا تساهل في المرة الثانية، فإطاعة الأوامر واجب، ما يعرّض المجندين إلى ضغط النفسي، لكنّ مع مرور الوقت، وبعد عودتهم من أول مأذونية تُمنح لهم، يلمس المدرِّبون التغيير الذي طرأ على حياتهم وتصرفاتهم، والذي تعكسه ردة فعل الأهل بعبارة: «صار زلمي». أما هم فيدركون معنى أن يكون الواحد منهم عسكريًا يستحق أن يناديه الآخرون: «يا وطن».
مبروك من القلب
في نهاية الدورة، يشعر العقيد عبد الرزاق بالفخر والاعتزاز لأنّ «الكل يعرف المرصوص، الكل يتقن استعمال السلاح، الكل تعلّم كيف يؤدي التحية، ويعرِّف عن نفسه بطريقة عسكرية، يحترم الأنظمة والقوانين، ويعلم لماذا العقوبات ومتى المكافآت». ويوم تخرّجهم يقول لهم من كل قلبه «مبروك» يستحقونها نتيجة التعب الذي تعبوه للوصول إلى هذه اللحظة التي يعودون فيها إلى قطعهم للقيام بمهمات عسكرية هم أهل لها.
نحو الجهوزية التامة
بعد متابعتهم لمكتب الدراسة رقم ١- القسم المشترك – ومهمته تأهيل العسكري كي ينتقل من الحياة المدنية إلى الحياة العسكرية، يؤكد العقيد الركن علي رمال (قائد لفيف تدريب الأفراد) أنّ المجندين يصبحون جاهزين لتأدية المهمات التي تقوم بها القطع عندما يدق نفير الخطر، وذلك بفضل نمط الحياة العسكرية القائم على الحزم والقساوة والتشدد في الهندام والتحلي بالمناقبية العسكرية.وهو يوجّه رسالة إلى المجندين مفادها ضرورة المواظبة على تطبيق القوانين واحترامها، متمنيًا عليهم تحمّل الصعوبات التي نمر بها لأنّ الوطن يستحق منّا أغلى التضحيات.
خلال الجولة، زرنا إحدى قاعات التدريس حيث كان النقيب هادي خليل (آمر وحدة تدريب) يشرح للمجندين دروسًا نظرية وتطبيقية في كيفية استعمال السلاح، ويدربهم على الرماية والوثبة بالسلاح. ويشدّد على الجدية والحماسة في تنفيذ التمرين الأخير الذي بدا أنّه يثير دافعية المتدربين إلى حدودها القصوى.
ننتقل إلى إحدى الفصائل فنسأل آمرها الملازم حسين عبدالله عن واقع الحال في فصيلته، فيوضح أنّ الضغط النفسي الذي يتعرض له المتدربون كبير جدًا، ما يدفع البعض منهم إلى التفكير بالمغادرة، لكن بعد مرور حوالى الشهر يكتشفون أنّهم يمتلكون قدرات ينمّيها التدريب ويحرزون تقدمًا ملحوظًا في اكتساب العلوم العسكرية والمهارات الضرورية. وهو يعبّر عن مدى سعادته بتدريب نخبة من الشباب سوف تفتخر بهم المؤسسة العسكرية.
من ساحات المعهد
التقينا عددًا من المجندين في ساحة التدريب، بعضهم من الدفعة التي التحقت حديثًا، وبعضهم الآخر من الدفعة التي مضى على التحاقها نحو شهر ونصف. يلفتنا تأكيدهم أنّهم يأتون من عائلات زرعت في نفوسهم حب الوطن والمؤسسة العسكرية منذ صغرهم، وبينهم من خدم في هذه المؤسسة فرد أو أكثر من عائلته. هذا الواقع شجعهم على التطوّع في الجيش تجسيدًا للمبادئ التي رافقتهم منذ الصغر من جهة، ونتيجة خبرتهم واقتناعهم بأنّهم في ظل مؤسسة توفر لهم الأمان على الرغم من الأوضاع الاقتصادية المتردية التي يمر بها الوطن من جهة اخرى. «الجيش ما بيترك ولاده» يقول أحدهم مضيفًا، «بالنهاية ما في إلا الدولة».
نتعرف إلى المجند عمر خضر إسبر الذي يؤكد ما أجمع عليه رفاقه، ويضيف أنّ الوطن يستحق منّا كل التضحيات. وعلى الرغم من أنّ الانتقال من الحياة المدنية إلى الحياة العسكرية لا يخلو من الصعوبات، فقد تجاوزها بنجاح، وأصبح جاهزًا لخوض غمار المهمات العسكرية بثقة وعزم.
أما زميله الجندي الياس قازان الذي لم يكن سهلاً بالنسبة إليه مغادرة بيت الأهل والالتحاق بالمؤسسة العسكرية لاختبار حياة جديدة فقد بات اليوم يعتز بنفسه ويفتخر بانضمامه إلى الجيش، ويحلم أن يتابع دراسته الجامعية في مجال إدارة الفنادق وينضم إلى صفوف الضباط.
يوم في حياة مجند
يبدأ يوم التدريب في الساعة الخامسة صباحًا وينتهي في العاشرة مساءً، وتتوزع وقائعه على الشكل الآتي:
عند الساعة الخامسة صباحًا النهوض، يليها نصف ساعة رياضة صباحية، من ثم قيافة وهندام، تناول وجبة الفطور، تنظيف قطاعات التدريب وترتيب الغرف والأسرّة، اجتماع صباحي بقيادة قادة الألفاف وملاك التدريب لإعطاء التوجيهات العامة، متابعة برنامج التدريب (نظري وعملي)، تناول وجبة الغداء، متابعة برنامج التدريب، تناول وجبة العشاء، درس مسائي، ومن ثم إطفاء الأنوار والخلود إلى النوم.
من جهته، يبدو المجند ياسين غانم واثقًا من أنّه سيستطيع متابعة دراسته الجامعية في مجال التمريض رغم انخراطه في صفوف الجيش، فالقيادة تشجّع العسكريين على متابعة تعليمهم. هذا الأمر ليس السبب الوحيد لتطوّعه بالطبع، فهو يرى أنّ المؤسسة العسكرية هي عماد الدولة، وهي ما زالت صامدة في وجه الرياح العاتية التي تعصف بالوطن. ويعتبر أنّه “من واجبنا الوقوف إلى جانبها لمواجهة التحديات بدلًا من ترك البلد لمصيره والسفر إلى الخارج”. وكغيره من الرفاق، استصعب التمارين في البداية خصوصًا في المرحلة الأولى، وافتقد كثيرًا لطبخ والدته، لكنّه تأقلم مع الوضع، يقول: “فترة بدها تقطع”.
لأنني أحبها ولأنّها تحبني
عندما تطوّع الجندي جيمي عطيه في الجيش وارتدى البزة العسكرية كان على ثقة أنّ المؤسسة العسكرية ستحتضن المتطوّعين تحت جناحيها ولن تتركهم لمصيرهم. يخبرنا أنّه نشأ في عائلة معظم أفرادها في الجيش، لكّن التطوع كان خياره الشخصي، فهو “مغرم بهذه المؤسسة” كما يقول. ويضيف، نحن على استعداد لتقديم التضحيات في سبيل لبنان على الرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الوطن والجيش.
صمود المؤسسة العسكرية في وجه الأزمات هو أيضًا ما شجّع المجند زهير مشيك على الانضواء تحت عباءة الجيش. يقول: “هذه المؤسسة الوحيدة التي ما زالت تؤمن الضمانات التي غابت في المؤسسات الأخرى، وأهمها الطبابة”. من جهة أخرى، هو يراهن على قدراته والخبرات التي سيكتسبها ليتقدم في مسيرته العسكرية ويتدرج من رتبة إلى أعلى.
كان طموح المجند شادي الديب أن يكون ضابطًا في الجيش، لم تسعفه الظروف في ذلك فالتحق بالمؤسسة العسكرية بصفة مجند، لأنّه يُحبها، ولأنّها الوحيدة التي ما زالت تقدّم لعناصرها أفضل الضمانات. في أحضان المؤسسة تعلّم الكثير، الدفاع عن النفس والآخرين، والصبر في مواجهة صعوبات الحياة… وهو سوف يبقى في هذه المؤسسة، حلم الطفولة، حتى الرمق الأخير.
على وقع هذا العهد الذي يطلقه مجند شاب نودّع المعهد حاملين زادًا من الأمل والعنفوان لطالما رفدنا بهما رجال جيشنا. وإلى اللقاء في وطن يتسع لأحلام شبابه وطموحهم وعنفوانهم.
مجلة الجيش