تونس.. من حالة النموذج وحقل التجارب إلى محاولة الخلاص

عندما أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد في الـ 25 من يوليو (تموز) الماضي قراراته بإقالة حكومة هشام المشيشي وحلّ البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، كان بهذه القرارات لا يحدث فقط تحولات جوهرية في بلاده تحتاج إلى وقت لتقدير أبعادها ونتائجها بشكل متكامل، لكنه أيضاً يثير أبعاداً أكثر تعقيداً في ما يتعلق بالمشهد الكلّي لمشروع الإسلام السياسي إقليمياً ودولياً، كما أنه يثير قضية ربما أكثر عمقاً حول فلسفة التطور السياسي ومدى إمكانية فرض تجارب سياسية على مجتمعات معينة من جانب أطراف أخرى.

وفي الحقيقة، إن كل هذه الأسئلة بالغة الصعوبة، وليس بينها ما يمكن حسمه بسهولة، ومع ذلك هو اجتهاد تجاه هذه الأبعاد المتعددة المستويات من الناحية التحليلية.

أبعاد المشهد الداخلي التونسي وفرص الخلاص

أول هذه الأبعاد المتعلق بالشق التونسي هو بعد بالغ الصعوبة والقطع فيه أيضاً أصعب مما قد يظنه البعض للوهلة الأولى. فهذه القرارات تمت بعد فترة طويلة من تأزم الحياة السياسية والخلاف العميق بين مكونات السلطة التنفيذية أي بين الرئيس قيس سعيد ورئيس الوزراء المشيشي، الواضح قربه من “حزب النهضة”، والفشل الواضح لحكومة هذا الأخير في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، كان شاهدها الارتفاع الشديد في معدلات البطالة والفقر والركود الاقتصادي، وكذا ارتفاع ملحوظ في الهجرة غير الشرعية، وزاد ارتباك المشهد الداخلي بانتشار حاد لكورونا وتصدّرها للمنطقة العربية في هذا الصدد، وسط إخفاق كبير للمنظومة الطبية الذي شهد قمّته بإقالة وزير الصحة قبل قرارات سعيد الأخيرة بفترة وجيزة.

ومن ناحية أخرى، استشرى الفساد بشكل ملحوظ إلى حد امتد إلى العملية القضائية، وانتشرت معلومات عن أن هذا الفساد يفسّر بطء كثير من حالات التقاضي في البلاد. ولم يقتصر الأمر على خلاف سعيد – المشيشي، فكان واضحاً منذ فترة أن مصدر هذا الخلاف بالأساس من دعم “حزب النهضة” وقائده راشد الغنوشي لرئيس الحكومة. ولعبت السيدة عبير موسي دوراً مهماً على مدى أكثر من عام في مواجهة “النهضة” والغنوشي، وفي الكشف عن ممارسات هذا التيار وعمق إفلاسه السياسي.

أزمة أعمق في الداخل التونسي

لم تكُن محاور الصراع سابقة الذكر ستقفز إلى السطح بهذه الحدة، لولا أن هناك خللاً عميقاً يصاحب الحياة السياسية منذ الثورة التونسية في 2011، وإذا نحّينا الشق الخارجي الذي سنعود إليه لاحقاً، فإن محور القضية الأساسية هو ضعف الحياة السياسية التونسية والعربية وعدم قدرتها على فرز أحزاب سياسية مدنية قوية، بسبب طول فترة حكم الحزب الواحد في البلاد في مرحلة ما قبل الثورات، ويزيد من هذا التعقد تشرذم القوى المدنية، مما مكّن “حزب النهضة” الإخواني من أن يعيش مساحة أكبر من حضوره في المجتمع التونسي ومن قوته الفعلية وجاهزية كوادره لمهمة الحكم، الأمر الذي أدى إلى فوز الحزب بأعلى نتيجة في الانتخابات البرلمانية، وهي نسبة محدودة 25 في المئة، ومع ذلك سمحت له بإيجاد التحالفات الضرورية لتصدّر البرلمان والحكم كذلك، ومن الواضح أن مشكلة إخوان تونس مثلها مثل مصر، صعوبة توافر الكفاءات المهنية والسياسية المطلوبة للحكم، وأن امتلاك مهارات التنظيم وتغييب العقول لا تكفي لصنع قيادات ماهرة وحصيفة تملك رؤى حقيقية للإصلاح والتطوير.

وعلى الصعيد السياسي أيضاً، هناك أزمة دستورية نتيجة تهميش غير منطقي لصلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب مباشرة من الشعب وعدم وضوح نظام الحكم، وهذه قضية ربما تحتاج إلى تفصيل كبير. وزاد من الأزمة صعوبة الوضع الاقتصادي في البلاد، بسبب إخفاق السياسات والفساد وانهيار قطاع أساسي ومحوري في الاقتصاد الوطني، وهو السياحة، نتيجة الاضطرابات السياسية، وجاءت كورونا لتزيد الأمر تعقيداً وصعوبة أمام أي تحسن اقتصادي.

فرص الخروج من الأزمة

يمكن القول إن الفترة المقبلة دقيقة للغاية، فصحيح أن الشواهد بخاصة من يعرف المجتمع التونسي بشكل دقيق سيعرف أن هناك تأييداً من الغالبية الحقيقية لسعيد، فضلاً عن دعم واضح وصريح من المؤسسة العسكرية والأمنية، لكن المخاطر لا تزال عالية ليس فقط من عناصر “النهضة” أيّاً كانت نسبتهم الفعلية والحقيقية في المجتمع، لكن من حلفاء وفصائل متشددة حتى لو كان عددها بالآلاف فقط، فإنها قادرة على زعزعة المشهد في البلاد، ما لم تكُن الأجهزة الأمنية على أهبّة الاستعداد بشكل حاسم. وعلى الرغم من أن تحرك هذه العناصر المتشددة سواء من “قاعدة” أو “داعش” أو التنظيم السري لـ”النهضة” سيفضح كل مقولات ودعايات هذه الحركة وهذا الحزب كتيار معتدل، إلا أن الهيمنة الكافية على هذه التيارات ربما تخرج عن السيطرة وتكشف النقاب عن حقيقة “حزب النهضة”، وهو ما يفسر النداءات الغربية بالحرص على تجنّب العنف في رسالة إلى الأخير بأن حدوث هذا سيحرج داعمي الإخوان من الغربيين.

كما يظل التحدي الرئيس مكوناً من شقين، الأول سرعة تشكيل حكومة تكنوقراط محترفة وفاعلة، قادرة على مخاطبة التحديات الاقتصادية وإزالة قدر من الاحتقان يحتاج إليه المجتمع، بخاصة الشباب، والثاني هو نشوء حركة سياسية حزبية مدنية جادة تضم المجتمع خلف قيادة متزنة، تعيد بدورها التوازن إلى الحياة السياسية والمجتمع، وتنهي دور تيار “النهضة” المبالغ في قوّته الحقيقية.

المشهد الإقليمي

كشفت مجموعة ردود فعل سريعة لقوى توظيف الدين في السياسة إقليمياً عن عمق المخاوف لديهم مما تمثله التحولات التونسية، ففضلاً عن تصريحات منفعلة للمشري، أحد رموز هذا التيار في ليبيا، تواترت معلومات عن تحرك عناصر وميليشيات متطرفة تجاه الحدود الليبية – التونسية، وسبق لهذه القوى في ليبيا أن استقبلت سقوط الإخوان في مصر بقلق وانزعاج شديدين. ومن ناحية، صدرت تصريحات غاضبة من الحكومة التركية، لكن من الواضح أن الاتصال الذكي من وزير الخارجية التونسي بنظيره التركي يبدو خفف من سرعة الاندفاع التركي الذي كان متوقعاً في هذا الشأن. وفي جميع الأحوال، تبدو الحلقة التونسية بالغة الأهمية في المشهد الخاص بالمواجهة ضد التيارات الظلامية في المنطقة، والأرجح أن هذه القوى تدرك خطورة هذا البعد، وأننا في بداية تبلور المواقف، وفي بداية طريق صعب، من المستبعد معه أن يتم احتواء الموقف وحسم الصراع بشكل سريع.

هل هي نهاية حقبة حقل التجارب ووقف الدروس الخارجية؟

ليس سراً أن مؤسسات حكومية غربية بتأثير وتفاعل مع مؤسسات مجتمع مدني وأخرى بحثية غربية تروّج منذ بداية ثورة تونس إلى أن تجربتها هي الأكثر نجاحاً في ثورات المنطقة العربية، وكانت الرعاية الغربية لهذا النموذج تدور حول محورين، المحور الأول تجربة المسار الديمقراطي، والمحور الثاني إشراك قوى الإسلام السياسي، وتوهم الرعاية الغربية بأنها معتدلة. وتنطلق هذه الرؤية من أن التطور السياسي في المنطقة لن يتم إلا بهذا، وأن اشتراكهم في الحكم سيعزز تدريجاً من الاعتدال ومن قيم الديمقراطية.

ومشكلة هذه الفرضية أنها لا تستند إلى قراءة دقيقة لهذه التيارات الفكرية، ولا إلى تاريخها، وأن جانباً كبيراً من تماشيها في الصيغة الديمقراطية هو بغرض الوصول إلى الحكم والدعم الغربي، وأن هذا ليس نابعاً من إيمان حقيقي بقيم المشاركة السياسية وقبول الآخر، كما يغيب عن هذا الافتراض أيضاً التغافل المتعمد عن صلات التيار الإخواني بالتيارات التكفيرية الأخرى، وهو أمر مؤكد في مصر تاريخياً، ومؤكد في ليبيا اليوم والتحالف بين إخوان ليبيا وهذه الفصائل أمر معروف على مدار معارك الأعوام الماضية، ولا يخفيه حدوث مواجهات أحياناً بين هذه الفصائل وبعضها البعض. وتتغافل هذه الجهات البحثية والاستخبارية عن العلاقة الوثيقة بين الحكومة التركية التي يُفترض أنها تنتمي للمنظومة الإخوانية وتوظيفها لهذه الميليشيات المتطرفة من “داعش” و”القاعدة” في ساحات الصراع في المنطقة العربية حالياً. وهنا على الرغم من معاناة الشعب التونسي من ممارسات وأخطاء “النهضة”، واصلت هذه الجهات مراهنتها على هذه التجربة من دون مراعاة التطور السياسي التاريخي للبلاد، وأن جذور بحث المجتمع التونسي عن الحداثة والتنوير من أسبق النماذج العربية، وأن إيجاد صيغة للتطور السياسي والديمقراطي يجب أن تستند إلى صيغة تتلاءم مع طبيعة هذا المجتمع وتحافظ على هويته وأن تخلق تونس هذه الصيغة لا أن تطبّق ما تريده هذه الجهات الغربية.

إذا كان لنا أن نختتم هذه القراءة الأولية، فإن تونس ما زالت في بداية طريق صعب ربما لم تتضح بعد كل معالمه، وعلى الرغم من ردود الفعل الأولية من “حزب النهضة”، ووجود شواهد من الحزب بمراجعة سياساته، بل وإقراره بأخطائه، فإنه لم يتأكد بعد مدى جدية هذا. وبالنهاية، فإن نجاح المرحلة المقبلة سيتوقف على أمرين، مدى فاعلية الحكومة الجديدة ومدى نجاح الأحزاب في خوض انتخابات تسفر عن حقيقة التوجهات وتعيد التوازن إلى المجتمع التونسي.

المصدر: «اندبندنت عربية»

شاهد أيضاً

التطبيع السعودي – الإسرائيلي يتلاشى وسط تصاعد المشاعر المناهضة لإسرائيل في الشرق الأوسط

أكد موقع “i24NEWS” الإسرائيلي أن “التطبيع السعودي – الإسرائيلي لا يزال بعيدًا عن متناول اليد، …