كتبت راكيل عتيّق في “نداء الوطن”:
خلقَ طرح موضوع عدد المسيحيين في لبنان في مقابلة تلفزيونية مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الثلاثاء الفائت، حالةً من الإستغراب والتساؤل، شكلاً ومضموناً وتوقيتاً. كذلك «تفاجأت» جهات سياسية من «الحرص» الذي أبداه ميقاتي على المسيحيين ووجودهم، وإعلانه أنّه سيطرح هذا الموضوع مع قداسة البابا فرنسيس خلال زيارته الفاتيكان الشهر المقبل، في وقتٍ يصرّ ميقاتي بحسب هذه الجهات على «استهداف» الموقع المسيحي الأول في الدولة عبر عقد جلسات لحكومة تصريف الأعمال في ظلّ الشغور الرئاسي، على رغم معارضة بكركي وأكبر كتلتين نيابيتين مسيحيتين.
التلويح مجدداً بـ»راجح الأعداد» للتهويل على المسيحيين وتخويفهم ليس بريئاً بحسب جهات سياسية مسيحية، في توقيتٍ رئاسي، وفي ظلّ محاولة «محور الممانعة» فرض الرئيس الذي يلائمه بعكس إرادة المسيحيين وبمعزل عن موافقتهم. ويبدو أنّ الإعلامي سامي كليب مهتمّ بمسألة الأعداد، وسبق أن نشر «تغريدة» في تشرين الأول من عام 2022 يشير فيها الى الإحصاء السكاني للبنان الذي تتبنّاه وزارة الخارجية الفرنسية. وخلال استضافته ميقاتي في برنامجه «الرئيس»، سأل كليب رئيس حكومة تصريف الأعمال، عن «إحصاء موثوق» وصل الى بكركي وميقاتي يكشف أنّ المسيحيين في لبنان، بعد انفجار 4 آب 2020، باتوا يشكّلون 19.4 في المئة. ميقاتي شكّك بصحة هذا الرقم، مؤكداً «التمسُك بالعيش الواحد ووحدة الوطن». وكشف عن اطّلاعه على تقارير عن نسبة المسيحيين في عدد من الدول العربية، مشيراً الى أنّه سيثير هذا الموضوع مع قداسة البابا. واعتبر أنّ «رئاسة الجمهورية باب لكي يبقى المسيحي في البلد».
إثارة هذا الموضوع لاقت استغراب جهات عدة، على رأسها البطريركية المارونية التي أكّدت في بيان، أنّ «أعداد المسيحيين في لبنان أكبر بكثير من النسبة المغلوطة التي نُسبت الى التقرير المزعوم». هذا الموضوع قد يكون مدار بحث بين ميقاتي والبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، إذ إنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال سيزور بكركي لوضع الراعي في جوّ زيارته المرتقبة للكرسي الرسولي. وتشير مصادر قريبة من ميقاتي، ردّاً على اعتبار البعض أنّه زايد على المسيحيين في إعلانه أنّه سيزور قداسة البابا لكي يطرح معه موضوع الوجود المسيحي في الشرق، الى أنّ «هذه الزيارة عنوانها الأساس الشأن اللبناني، ومن ضمنه تراجع عدد المسيحيين، لأنّ الرئيس ميقاتي حريص على الحضور المسيحي، وهذه ليست عملية مزايدة طائفية بل مسألة وطنية».
أرقام الناخبين
ما يزيد من الشكوك حول الغاية من «دسّ» هذا التقرير، أنّ الانتخابات النيابية الأخيرة التي لم يمرّ عام على إجرائها، تُظهر مقارنةً بعدد الناخبين أنّ نسبة المسيحيين المقيمين في لبنان تتراوح بين 29 و32 في المئة. فيما تشير أرقام مؤسسات مسيحية الى أنّ هذه النسبة تصل الى 38.4 في المئة. لكن بمعزل عن لغة الأرقام ولعبتها، تكتفي بكركي بالبيان الصادر عنها إثر مقابلة ميقاتي، وتقول مصادر كنسية: «لا شيء نقوله أكثر ممّا قلناه. لكن إمّا «وقّفنا العدّ، والدستور ماشي أو مش ماشي». ولا يخشى المسيحيون عامةً، والكنيسة خصوصاً، لعبة العدّ، خصوصاً أنّها قديمة – جديدة. فحتى خلال السينودوس من أجل لبنان الذي عُقد في تشرين الثاني من عام 1995، في روما، برئاسة البابا يوحنا بولس الثاني، أتى الى الجلسة الافتتاحية، من يوزّع منشورات على جميع المشاركين تشير الى أنّ عدد المسيحيين المقيمين في لبنان بات أقلّ من 15 في المئة. وبالتالي إنّ مسألة العدد يُعمل عليها منذ زمن. وبمعزل عن الأسباب والأهداف والأبعاد، تنكبّ مرجعيات مسيحية الآن، على التحضير لدراسات وقرارات تنفيذية تتعلّق بالديموغرافيا والهجرة.
الأعداد السكانية في لبنان، لا تؤثّر في طبيعة النظام أو تغييره، بحسب جهات أكاديمية مختصّة، فسواء شكلّ المسيحيون في لبنان 30 أم 20 أم 5 في المئة من اللبنانيين المقيمين، إنّ تغيير طبيعة النظام اللبناني غير مرتبط بالأعداد بل بواقعٍ أكبر، فحتى الحرب الأهلية لم تغيّر جذرياً في هذا النظام، بل عدّلت في الصلاحيات. وتشير مصادر مسيحية الى أنّ مسألة العدد قوربت منذ زمن الاحتلال السوري، من زاوية تخويف المسيحيين من أنّ أعدادهم تتراجع، لكي يأخذوا خيار عدم الاتكال على أنفسهم وطلب الحماية من جهةٍ ما، أي «الناظم السوري» في ذلك الوقت.
لذلك لم يصدر مرسوم التجنيس عام 1994 صدفةً بل كان مقصوداً ومبرمجاً لضرب الديموغرافيا والتوازن الدقيق في لبنان، بالتوازي مع ضرب الزعامات التاريخية للمسيحيين وحظر العمل السياسي، وذلك للقول للمسيحيين، أمامكم خياران: إمّا أن يُحكم لبنان من قبل المسلمين وإمّا تأتون «لعنّا» لكي نؤمّن التوازن المطلوب بعدما فُقد. وفي ظلّ «الاحتلال السوري»، بين عامي 1990 و2005 ظهرت نظرية أنّ المسيحيين لا يحق لهم بمناصفة فعلية بل يجب أن تكون المناصفة شكلية، انطلاقاً من أنّ حجم المسيحيين الديموغرافي لا يسمح لهم يأن يُمثَّلوا بـ65 نائباً بل بـ45 نائباً كحد أقصى، فيما يُنتخب باقي النواب المسيحيين من قبل المسلمين. وبالتالي، إنّ إثارة مسألة العدد الآن، بحسب هذه الجهات، تأتي ضمن النمط التخويفي التاريخي نفسه، للقول للمسيحيين، إنّ هذا عددكم، «شوفوا شو بدكن تعملوا»، إذ يجب أن تأتوا برئيسٍ للجمهورية قريب من «محور الممانعة» ومن صلبه يستطيع من خلال قبضات هذا المحور أن يحمي المناصفة في لبنان.
لكن «راجح العدد» لا يخيف المسيحيين، بحسب الأوساط نفسها، إذ إنّ البلد يقوم على الشراكة بمعزل عن طبيعة الأعداد، ومسألة الأعداد لا علاقة لها لا بطبيعة النظام ولا بطبيعة التمثيل السياسي والشراكة. أمّا أي محاولة لاحتساب الديموغرافيا لتغيير النظام، فستجعل المسيحيين يذهبون تلقائياً إلى الفدرالية، فإمّا استمرار هذا النظام بالشراكة القائمة، وإلّا فلن يقبل المسيحيون بانتقاص المزيد من حضورهم في الدولة، وسيختارون نظاماً يؤمّن لهم الحماية الذاتية في المناطق الموجودين فيها ضمن إطار دولة اتحادية، بما يحمي وجودهم ودورهم وتنوّعهم.