كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
هي دوامة لا يعرف لها رأس من كعب، وكلما خُيل إلينا أننا أمسكنا بطرف الخيط فيها تتشابك الخيوط وتكون عقداً محكمة يصعب فكها. هذا هو الوصف الذي ينطبق على قضية المالكين والمستأجرين وبينهم الدولة وقانون الإيجارات وبدء سنة انتهاء المهل. وقد شكل هذا التاريخ صافرة الانطلاق لموجة جديدة من التخبط القانوني والاجتماعي بين “أطراف النزاع”. وبين تسعيرات الدولار المختلفة واعتكاف القضاة وترنح الميزانية يقف المالكون والمستأجرون على حافة الهاوية لا يعرفون متى ينزلقون إليها.
مع بداية العام 2023 عاد الى الواجهة قانون الإيجارات الجديد وما يطرحه من إشكاليات مع دخولنا في السنة الأخيرة التي تعطي المستأجرين القدامى (غير المستفيدين من صندوق الدعم) حق الاستفادة من المهلة الأخيرة قبل البدء بتسديد إيجاراتهم 100% وفق العقود الجديدة او إخلاء المأجور. فيما يمدد القانون المهلة حتى ثلاث سنوات إضافية للمستأجرين الذين يستفيدون من صندوق الدعم الذي من المفترض أن يساهم في دفع فارق القيمة بين الإيجار القديم وما طرأ عليه من زيادات متتالية وصولاً الى القيمة النهائية للإيجار أو ما يعرف ببدل المثل.
منفّذ أم مجمّد؟
منذ مطلع السنة بدأت الأصوات تعلو من جانب الطرفين: المالكون يخشون ألا يتم تطبيق القانون الذي انتظروه طويلاً ليعيد إليهم أملاكهم «المنهوبة» وفق ما يقولون، والمستأجرون القدامى يدافعون بدورهم عما يعتبرونه «حقوقهم» ويدعون أن القانون لن يدخل حيز التنفيذ في أواخر العام لأن ثمة جدل حول تاريخ إعادة إصداره في الجريدة الرسمية بعد أن أدخلت عليه تعديلات. قانونياً تكاد الطاسة تكون ضائعة سواء بالنسبة للقضاة او المحامين حيث الكثير من الأمور لا تزال غير واضحة ولم يتم البت فيها.
يقول المحامي كامل صفا وهو محام في الاستئناف أن الإشكاليات القانونية كثيرة، تبدأ مع تحديد من هم المستفيدون من صندوق الدعم؟ قانوناً هم العائلات المستأجرة التي لا يتجاوز مجموع مدخول أفرادها ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور. ولكن مع الأزمة المستجدة بات الحد الأدنى للأجور غير واضح وغير معروف بالضبط ما هي قيمة ثلاثة أضعاف منه، كما أن دخل العائلة لم يعد محدداً لا سيما في حال وجود أفراد يقبضون رواتبهم بالدولار مثلاً. ومن جهة أخرى هل رصد لصندوق دعم المستأجرين ما يكفي من أموال ليدفع لكل من قدموا طلبات للاستفادة من تقديماته؟
يؤكد خليل وهو مستأجر قديم أنه تقدم بطلب الى الصندوق منذ 2019 وحتى الآن لم يستوف صاحب الملك أي مبلغ من الصندوق فرق إيجار كما ينص القانون. «إيجارنا مكسور يقول خليل بسبب عدم وجود أموال في الصندوق وقد اضطررت أن أضع قيمة الإيجار عند كاتب العدل حتى لا يتهمني صاحب الملك بعدم تسديد الإيجار ويقوم برفع دعوى قضائية ضدي».
ما يخشاه خليل لا تخاف منه جارته غادة التي تدرك جيداً أنه في وضع كهذا تحتاج القضايا أمام المحاكم الى سنوات طوال حتى يتم الوصول فيها الى حكم، وهي مطمئنة الى أنها قادرة على البقاء في منزلها المستأجر حتى أجل غير منظور. ولكن هذا لا ينفي أن ثمة مستأجرين استفادوا من الصندوق سابقاً قبل الأزمة وقبل أن تفرغ كل صناديق الدولة اللبنانية من أموالها…
«فيما مضى يقول المحامي صفا كان قضاء العجلة هو المكلف ببت القضايا الطارئة بين المالك والمستأجر وكان يتم إصدار قرار في غضون ساعات ليس إلا. أما اليوم فمع اعتكاف القضاة توقفت كل القضايا وحتى مع عودة القضاء الى العمل فإن الضغط سيكون هائلاً على القضاة وسوف يحتاجون الى وقت طويل للبت بكل القضايا العالقة بين المالكين والمستأجرين ولن يكون هناك شيء اسمه قضاء العجلة».
ويشرح المحامي صفا إشكالية ثانية مرتبطة بقانون الإيجارات حيث أنه بعد أن نشر عام 2014 حصل طعن في المجلس الدستوري أدى الى تعديل بعض المواد فيه ورفض الطعن بأخرى وأعيد نشره في الجريدة الرسمية عام 2017. لذا فالسؤال اليوم هل يكون ساري المفعول منذ العام 2014 ونكون قد وصلنا الى نهاية سنوات السماح التدريجية التسع أم يعتبر تاريخ سريانه في 2017؟
عجز في السن والقوانين
وجيه الدامرجي رئيس لجنة المستأجرين القدامى في بيروت يصر على أن القانون مجمّد ولم تنته بعد المدة التي حددها لسبب بسيط وهو أن صندوق الدعم متوقف وفارغ. لا بل يؤكد أن المشرعين يتركون ثغرة فيه دوماً حتى يبقى مجمداً. فاللجان التي ستبت بطلبات المستأجرين لم تؤلف بعد حسب قوله ومن جهة أخرى أي قاض يسمح له ضميره برمي المستأجر خارج بيته في هذه الظروف ؟ فأصغر واحد من المستأجرين القدامى صار اليوم بعمر السبعين وما فوق فكيف يطلب منه إخلاء منزله أو تسديد إيجاره الجديد بالدولار وهو بات غير قادر على تأمين قوت يومه؟ هل يمكن طرد 20000 مستأجر قديم من بيته مع انتهاء مدة السنوات التسع؟
كعادتها لم تنظر الدولة الى أبعد من أنفها عند إقرار قانون الإيجارات الجديد، لم تدرس آثاره على المجتمع يقول المحامي صفا ولم تقم بخطة لتحدد سقفاً للإيجارات الجديدة أو تقوم بإنشاء مساكن متوسطة الإيجارات لأصحاب الدخل المحدود. اكتفت بوضع آلية لتحرير الإيجارات تعمل بحسب ما هو مفترض على جعل آلاف العائلات يخلون مساكنهم القديمة للبحث عن مساكن جديدة، والكل يعرف أنه عند زيادة الطلب على سلعة ما فإن أسعارها ترتفع ومن هنا من المتوقع أن ترتفع أسعار الإيجارات الجديدة في حال انتهت مهلة السنوات التسع لتطبيق القانون وصارت الإيجارت كلها محررة. لقد تركوا للناس أن يدبروا أنفسهم بأنفسهم وخلقوا صراعات ما بين المالك والمستأجر حتى بالنسبة لعقود الإيجار الجديدة التي باتت تعتبر اليوم مشكلة قائمة بحد ذاتها.
باتريك رزق الله رئيس لجنة المالكين القدامى يؤكد وجود مشكلة كبرى ناجمة عن طمع وقلة ضمير عند بعض المستأجرين القدامى الذين يرفضون للمالك الذي اصبح عجوزاً بدوره حقه في استرداد ملكه أو الاستفادة منه. «عندنا إيجارات لا تتعدى 300000 ليرة بالسنة فيما المستأجر يرفع الأسعار في العمل الذي يمارسه ويدفع كل شيء وفق سعر الدولار وينكر على المالك هذا الحق». يؤكد رزق الله أن القانون ساري المفعول على خلاف ما يروج له المستأجرون وقد رصدت له في الموازنة الحالية 25 مليار ليرة وثمة 12000 طلب أمام اللجان للاستفادة من الصندوق وغير صحيح أنه لم ينشأ بل هو عبارة عن حساب في البنك تديره وزارة المال وقد عينت موظفين مسؤولين عنه. مراسيم إنشاء اللجان القضائية وعددها 24 لجنة وإنشاء الحساب صدرت كلها عام 2019 ولكن المشكلة اليوم أن القضاة لا يبتون في من هم المستأجرون الذين يستفيدون من الصندوق. فثمة مستأجرون لا يحق لهم الاستفادة لكنهم يتحايلون على القانون للبقاء في بيوتهم وعدم السماح للمالك برفع دعوى ضدهم لأنهم قدموا طلباً الى الصندوق وهذا الطلب يعلق دفع البدلات المستحقة. «يدعون بأن الوضع صعب ولكن أليس صعباً على المالك أيضاً؟ لماذا لم يعمد هؤلاء خلال السنوات التسع الماضية الى تأمين بدائل حين كانت الأوضاع المالية بخير؟ الجواب هو أن الدولة عودتهم على السكن «ببلاش» يقول رزق الله ويؤكد أن ظروف المالكين لم تعد تحتمل أي تأجيل هل يعقل أن ترتفع أسعار كل شيء إلا بدل السكن؟ اليوم تفعيل اللجان يجب ان يكون الأولوية القصوى لدى الجسم القضائي لإعادة الحق الى أصحابه».
جديد في الشكل ومكرر في الإشكاليات
إذا كان قانون الإيجارات غير منصف للمالكين والمستأجرين القدامى على حد سواء فإن الإيجارات المحررة لا تخلو بدورها من الإشكاليات. وفي هذا السياق يقول المحامي كامل صفا أن التحايل على القانون سيد الموقف ففي حين يجب أن تكون مدة عقد الإيجار المحرر ثلاث سنوات يعمد بعض أصحاب الملك الى جعلها سنة واحدة حتى لا يلزموا أنفسهم بإيجار محدد يمكن أن تتغير قيمته مع تلاعب سعر الدولار فيتم تحرير العقد لمدة ثلاث سنوات مع الذكر بأن المستأجر تنازل عن حقه بالسنتين الباقيتين، فيما قانوناً هو عقد مخالف للنظام العام لا يعتد به.
ومن المشاكل الأخرى التي طرأت على عقود الإيجار الجديدة أنه رغم كون العقد بالدولار إلا أن قانون النقد والتسليف اللبناني يجعل من العملة اللبنانية عملة الإيفاء وفق سعر الصرف. وحتى اليوم لا يزال سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة لذلك يمكن للمستأجر في حال وقوع خلاف بينه وبين المالك أن يقوم بإيداع قيمة الإيجار عند كاتب العدل وفق سعر 1500 ليرة.
قانوناً لا يحق للمالك طرد المستأجر او استيفاء حقه بنفسه بل عليه التقدم بشكوى ضده وكون المحاكم متوقفة فثمة مئات لا بل آلاف الشكاوى عالقة بين الطرفين في انتظار البت فيها. «من كان مالكاً مدعوماً يقول صفا ومن أصحاب النفوذ يمكنه طرد المستأجر بالقوة او تهديده ليخاف ويرحل وقد شهدنا على حالات كهذه. أما بالنسبة للبت بالدعاوى فقضاء العجلة بات خارج الخدمة فيما القضاة قد يكونون متروكين ليقرروا بأنفسهم على أي سعر يجب أن يودع المستأجر قيمة الإيجار: على السعر الرسمي او 8000 وفق تعميم المصرف المركزي او 15000 ليرة حين يقر رسمياً السعر الجديد للدولار الرسمي او وفق صيرفة او السوق السوداء. إشكالية كبرى حاولت وزيرة العدل السابقة تكليف لجنة لدراسة سعر الصرف الرسمي الذي يجب ان يعتد به أمام القضاء لكن اللجنة لم تجتمع حتى اليوم ولم تقدم تقريرها…
باختصار سواء في عقود الإيجار القديمة أو الجديدة فإن المشاكل لا تحصى ولا تعد. فهل يمكن طرد قدامى المستأجرين من بيوتهم وسط أسوأ أزمة اقتصادية في التاريخ؟ او يمكن ترك المالكين القدامى يعانون بصمت فيما أسعار العقارات وصلت الى ملايين الدولارات؟ أم هل يمكن للمالكين الجدد التحكم ببدلات الإيجار وطلبها بالفريش دولار فيما الدولة لم تحدد سقفاً منطقياً للإيجارات؟