كتب أنطون الفتى في “أخبار اليوم”:
بين معطيات وملموسات عن حركة أموال تدخل وتخرج من البلد، وعن “أرباح” سياحية صيفيّة وشتوية، وعن حركة سياحية أجنبية في لبنان، تتجاوز تلك (الحركة) التي تعود الى المغتربين الذين يزورون أهلهم خلال فترات الأعياد، وفصل الصيف… صورة لبنانيّة تتناقض تماماً مع تلك التي تجعل من لبنان بلداً فاشلاً، منذ خريف عام 2019.
تصنيفات
بمعزل عن الجانب السياسي لبعض التصنيفات، وعن مدى القدرة على تغيير الواقع الوارد فيها خلال وقت قريب أو لا، إلا أن تصنيف بيروت في المرتبة 240 ضمن صفوف المدن الأسوأ عالمياً بفعل النتائج المترتبة على تدهور القدرة الشرائية، وكلفة المعيشة فيها…، يجعلنا نتوقّف ولو قليلاً أمام الصورة السابق ذكرها، والتي تبيّن لنا ازدحام الشوارع، والمحال… إما خلال فترات الأعياد، أو بسبب المواسم السياحية.
فبمعزل عن أن أرباح المواسم الصيفية والسياحية ومواسم الأعياد، لا تدخل الى خزينة الدولة اللبنانية، إلا أنها موجودة في البلد، وتعكس ما فيه بنسبة أو بأخرى، وهو البلد نفسه الذي يُحكى عن كمّ هائل ومُتزايِد من الفقر، والمرض، والجوع فيه.
في وقت واحد
وحتى إن الإنفاق في بعض المناطق (احتفالات، مناسبات، حفلات اجتماعية، بتنظيم رسمي أو بلدي)… يُظهر تبايُناً هائلاً بين ما فيها من فقراء يحصلون على مساعدات من هنا أو هناك، وبين الأرقام التي تُصرَف على هذا النّوع من الاحتفالات.
فالبلد “ماشي” و”مش ماشي” في وقت واحد، وهو يذكّرنا بالعراق الذي يعبق برائحة الفساد، وبالتحقيقات حول اختلاسات بمليارات الدولارات، فيما نسبة مهمّة من شعبه ميتة فقراً وجوعاً ومرضاً. وهذا كلّه على وقع افتتاح بطولة “خليجي 25” باحتفالات باهرة، ومُكلِفَة جدّاً، وبطريقة تطرح الكثير من الأسئلة حول سلطات سياسية (سواء في العراق، أو في أي مكان حول العالم) قادرة على تأمين التمويل الداخلي أو حتى الخارجي، لمثل تلك الأمور، فيما تقف عاجزة أمام موت شعبها فقراً.
حياة صعبة
أشار الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور نسيب غبريل الى أن “تصنيف بيروت في المرتبة 240 ضمن صفوف المدن الأسوأ عالمياً بفعل تدهور القدرة الشرائية، يأخذ معايير ومؤشّرات مختلفة في الاعتبار، ولكنه لا يثبّت أننا أصبحنا دولة فاشلة كقدر مُحتَّم علينا. ولكنّنا نفهم تلك التصنيفات على ضوء النّظر الى لبنان يُعاني من انقطاع في الكهرباء، والمياه، ومن سوء في خدمة الاتصالات، وسط تكاليف مرتفعة. والغريب أننا في بلد لا كهرباء فيه، رغم أن كلفتها ترتفع، ووسط الاضطّرار الى دفع أكثر من فاتورة واحدة للكهرباء، والمياه، ولغيرها من الخدمات، وسط نوعية حياة صعبة”.
وأوضح في حديث لوكالة “أخبار اليوم” أن “نحو 25 في المئة من اللبنانيين تقريباً، ينجحون في تدبير أمورهم وحاجاتهم، لا سيّما أولئك الذين صاروا يتقاضون نسبة من رواتبهم بالدولار “الفريش”، أو أولئك الذين يتقاضون رواتبهم الكاملة بالدولار، نظراً لكونهم يعملون في مؤسّسات أجنبية. فيما نحو 25 في المئة من اللبنانيين يعانون بشدّة، بموازاة نحو 50 في المئة يعتمدون على المساعدات والتحاويل من الخارج”.
إهمال
وشدّد غبريل على أننا “أمام فرص ضائعة رغم الحركة السياحية، وحركة المغتربين في فترات الصيف والأعياد. فالمغتربون مثلاً يساهمون بالاستهلاك، وبالحركة الاقتصادية، لا سيما في القطاعات السياحية، وفي تلك التي تعتمد على القطاع السياحي بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن في بلد يفتقر الى البنى التحتية النّوعية، والى الكهرباء، والى نوعية جيّدة من الاتّصالات، والطُّرُق. ولو أن هذه كلّها متوفّرة، لكانت تساعد كثيراً على استقطاب المزيد من الحركة، وعلى زيادة التنافُسية في الاقتصاد اللبناني”.
وأكد أن “حالة الإهمال واللامبالاة المستمرّة، والمصالح الحزبية والسياسية الضيّقة، ووضعها فوق الأولويات الاقتصادية والمالية والمعيشية، تُوصِل أي بلد الى مثل تلك التصنيفات. ولكن يمكن تصحيح هذا الوضع، وهو ليس مُحتّماً علينا”.
الهوية الاقتصادية
ودعا غبريل الى “القيام برقابة حقيقية على الأسعار وعلى كل شيء، في بلد نَمَت فيه طبقة أغنياء الأزمة، وهم طبقة الذين اغتنوا وجمعوا الثّروات من سياسات الدّعم، والتهريب، والتخزين، وتجارة “الشيكات”. فأين هي ثقافة المساءلة والمحاسبة”.
وختم: “يُمكن اختصار الصراع القائم في لبنان، بالتصارُع على هوية البلد الاقتصادية، بين فئة تُظهر أنه بات مُحتَّماً على اللبنانيين أن يتقشّفوا لسنوات طويلة، وسط عَدَم احترام للمهل الدستورية سواء في الاستحقاقات السياسية، أو في إقرار الموازنات من ضمن المهل اللازمة، بمعيّة سوء إدارة، وانفلاش في القطاع العام، وبين فئة أخرى تنادي بالاقتصاد الحرّ والمُنفتح على العالم، وعلى المحيط العربي تحديداً، والذي يشكّل القطاع الخاص والمبادرة الفردية عموده الفقري، وهو اقتصاد يكمّل فيه القطاع العام ذاك (القطاع) الخاص، بالتشريع والإشراف والرقابة ومنع الاحتكار. ولا طريق فعلياً لهذا الاقتصاد إلا باحترام مبدأ فصل السلطات، وتطبيق الدستور والقوانين، واحترام استقلالية القضاء وتدعيمه، ووقف التهريب عبر الحدود بالاتّجاهين، ومكافحة التهرّب الضريبي والجمركي. وبالتالي، لا بدّ من البَدْء بالمساءلة والمحاسبة، وبإرادة سياسية للإصلاح”.