كتب طوني كرم في “نداء الوطن”:
تطول لائحة التحديّات التي تواجهها السلطة القضائية في لبنان، ومعها الآمال المعقودة على إقرار قانون استقلاليتها وإعادة انتظام عملها تحقيقاً للعدالة، في مجتمعٍ يشهد انهيار طبقاته الإجتماعية الوسطى والدنيا، كما سلطاته الدستوريّة، جرّاء تحكم أطماع أو «طموحات» بعض القوى السياسيّة بمستقبل أبنائه.
وإن كانت تبعات الإنهيار الإقتصادي والمالي كبيرة على جميع اللبنانيين، إلّا أن تداعياتها على السلطة القضائية وقصور العدل كما المحامين والمواطنين تتفاقم يوماً بعد يوم، ما دفع الى التساؤل فعلاً عن المستفيدين من ضربها عمداً، بعدما تحوّل حق الدفاع المشروع في القانون، إلى أسلوب سائد لتقديم طلبات ردّ للقضاة لوقف التحقيقات في الملفات الشائكة. وهذا ما برز جلياً، في ملف تفجير مرفأ بيروت القضائي، قبل أن يصبح التعطيل رائجاً بشكل أوسع، مع لجوء النائبة العامة الإستئنافية في جبل لبنان غادة عون إلى الأسلوب نفسه بوجه النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، بعد استدعائها إلى التحقيق على أثر الشكوى التي تقدم بها رئيس مجلس النواب نبيه بري وعقيلته بحقها، كما فعلها أيضاً وكيل الدفاع عن رئيسة هيئة إدارة السير هدى سلوم، المحامي مروان ضاهر، بتقديمه دعوى ردّ القاضية نازك الخطيب في ملف التحقيقات في النافعة.
وإذ اعتبر نقيب المحامين ناضر كاسبار أنّه من غير المقبول «إستنكاف» القضاة عن القيام بإحقاق الحقّ، ربط الإضراب المفتوح بمخطط ممنهج لتعطيل العدالة والحدّ من الدعاوى المرفوعة من المودعين بوجه المصارف… لتتصاعد في السياق نفسه، أصوات المحامين المطالبة باتخاذ الخطوات المطلوبة ووضح حدٍّ لهذا الإنهيار المتمادي في البلد والقضاء الذي يدفع المواطنين إلى استيفاء حقهم بالذات وكأننا في شريعة الغاب.
ومع مناشدة القضاة «التضحية في سبيل الوطن واستئناف عمل المحاكم»، رغم أحقية المطالب والهموم المعيشية التي تدفعهم إلى الإعتكاف، أوضحت جهات متابعة أنّ «القضاة في توقف قسريّ عن العمل جرّاء استحالة وصولهم إلى قصور العدل التي تفتقد إلى الكهرباء والقرطاسيّة كما الميزانية المطلوبة للصيانة والنظافة». وذلك قبل الحديث عن المطلب الأساسي بإقرار قانون استقلاليّة القضاء، وحمايته من التدخلات السياسيّة.
ومع الإقرار أنّ هذا الإجراء دونه معوقات، يضع القضاة في صلب مطالبهم الحصول على ضمانات مادية لا تتعدى راتباً لائقاً، وضماناً صحياً وتقديمات تعليميّة، وأبسط مقومات العمل في قصور العدل من أجل استئناف العمل كالمعتاد. وعن المساعدة الماليّة التي لحظتها الموازنة بزيادة ضعفي أساس الراتب لجميع المستفيدين من القطاع العام، وتحويل 20 مليار ليرة إلى صندوق تعاضد القضاة لإستفادتهم من هذا المبلغ، شددت الأوساط نفسها على أنّ الدستور الذي يعتبر القضاء سلطة مستقلة، يوجب عدم المقارنة بين القضاة الذين لا يتجاوز عددهم الـ 600 قاضٍ، والموظفين في القطاع العام، حيث تتطلب تسوية رواتبهم، خطة متكاملة لن ترى النور في القريب العاجل، خصوصاً وأنّ الزيادة على بدل النقل التي أقرتها الحكومة منذ أشهر لم يتم إلى الآن، تحويلها إلى القضاة.
وعن المساعي التي يقوم بها وزير العدل هنري الخوري والتي من شأنها أن تكون مُرضية للجميع، تحدثت الجهات نفسها، عن غياب الإقتراحات الجديّة التي من شأنها أن تدفع القضاة إلى إستئناف عملهم، رغم تسييرهم للأمور الملحة والمستعجلة، من بينها البتّ في طلبات إخلاء السبيل للموقوفين، ومتابعة الملفات المرتبطة بالأحداث، والنفقة، إلى جانب إستئناف عمل النيابات العامة وعودة قضاة مجلس الشورى إلى عملهم.
وترى أوساط متابعة وكأنّ هناك مخططاً ممنهجاً «لإذلال القضاة»، تحديداً بعد تجاهل الموازنة التي أقرها مجلس النواب قبل أسابيع لمطالبهم، والتي عمد النواب إلى مناقشتها والتصويت عليها في خضم الإضراب الذي ينفذه القضاة، وذلك بعد أن عمد رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الى الضغط على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من أجل حثّه على التراجع عن قراره بتحويل رواتب القضاة على سعر 8 آلاف ليرة قبل أشهر بدل 1507، لتؤكد جهات أخرى توجّه القضاة الى التشدد على وجوب أن يتم دفع رواتبهم على أساس سعر صيرفة (أي ما يزيد عن 30 ألف ليرة) بعدما أعلن حاكم مصرف لبنان عن نيّته رفع سعر الصرف الرسمي إلى 15 ألف ليرة خلال أسابيع.
وتتكثف الإتصالات بين القضاة الذين وجدوا نفسهم في المأزق ذاته مع المواطنين، من أجل العودة عن الإضراب وتسيير شؤون المواطنين الذين تعود عليهم الأضرار بالدرجة الأولى لتعذر حصولهم على حقوقهم وإنصافهم كما مقاضاة خصومهم. وهذا ما سيتضح بعد أيام، في حين يشدد البعض الآخر على أن الرجوع عن الإضراب من دون تحقيق المطالب دونه محاذير تحول دون العودة مجدداً إلى المطالبة بحقوقهم، مع العلم أنّ شريحة من القضاة تفكّر جدياً بوقف الاعتكاف والعودة للعمل لتسيير شؤون المحاكم.
وعلى الرغم من التعويل على دور السلطة القضائية في إعادة النهوض في البلد ومحاسبة المتورطين في نهب المال العام والفساد، تقاطعت المطالب المحذرة من الإستهتار المتمادي في هذا المرفق العام القضائي والإنزلاق أكثر إلى الإنحدار مع تقدم عدد من القضاة في وزارة العدل بطلب إنهاء خدماتهم.