كتبت سيلفانا أبي رميا في “نداء الوطن”:
لم يكن الثاني من تشرين الثاني، الذي سقطت فيه الطالبة ماغي محمود (16 عاماً) جرّاء انهيار سقف مدرستها، اليوم الأول الذي يلفّ طرابلس بوشاحٍ أسود. فقبلها سقطت جمانة ديكو طفلة السنتَين إثر سقوط مبنى مؤلف من ثلاث طبقات بمحلّة ضهر المغر في حزيران المنصرم، ومثلها توفيت شقيقتان ضحية انهيار شرفة منزل سكني بمنطقة القبة، في تشرين الأول من العام 2021، كما سقط عبد الرحمن كاخية (21 عاماً) وأخته راما (18 عاماً) إثر انهيار مبنى الفوال في ميناء المدينة عام 2019…
كان يمكن لضحايا الإهمال أن يواصلوا عيش طفولتهم وحياكة أحلامهم الشبابية لولا الفساد المستشري الذي أسقط على رؤوسهم أسقفاً كان يجب أن تكون لهم ملاذاً وأماناً.
منذ العام 2019 ونحن نكتب ونرفع القلم في القضية نفسها، علّنا نوقف مسلسل الانهيارات الذي يسلب عاصمة الشمال شبابها وأحلامها وتراثها وحتى العمران. لكن وللأسف «لا حياة لمن تنادي» فأرقام الضحايا ترتفع واللائحة تطول وسكّان المباني المتداعية متروكون لمصيرهم يترقّبون الضحية التالية.
ويستمرّ هذا التهديد المباشر للحياة وللإرث التاريخي والحضاري في المدينة التي تضم أكثر من عشرة آلاف وحدة سكنية، في ظل إهمالٍ عبثي تتعرض له ثاني أكبر مدينة في لبنان، والمنفذ الوحيد لسوريا الداخلية على الشاطئ الشرقي للمتوسط.
وفي ظل غياب المدينة التاريخي عن خريطة اهتمام الدولة وخدماتها، تتوالى الكوارث سواءً في الأحياء الشعبية حيث تكثر المباني القديمة والتاريخية الآيلة للسقوط والمأهولة بالسكان، أو في الأحياء غير الرسمية حيث يسوء وضع المنازل وتتدهور نوعية البناء الرديئة أصلاً. ووفق دراسةٍ أجرتها وزارة الثقافة سنة 2017، فإن عدد الأبنية التراثية المتصدّعة في طرابلس يفوق الـ 300 مبنى، تتفاوت حالتها بين الخطر المتوسط والمتقدّم والآيل للسقوط.
«نداء الوطن» التقت البروفيسور مهندس التخطيط والترميم المدني خالد تدمري، رئيس لجنة الآثار والتراث والعضو في بلدية طرابلس، الذي أكد أن المباني التراثية والعمرانية المهدّدة بالسقوط وصلت إلى الحال الهشّة التي هي عليها اليوم جرّاء الحروب التي مرّت على المدينة، فالقصف المباشر خلال الحرب الأهلية في الثمانينات والمعارك المحتدمة بين الفصائل الفلسطينية ودخول الجيش السوري أسفرت عن آلاف القذائف والصواريخ التي طاولت المباني موقعةً بها أضراراً وخيمة. ومذاك لم تشهد هذه الأبنية أي ترميم مع العلم أنها عند تضرّر أسقفها فإنها تفقد الكثير من ثباتها وتبدأ مياه الأمطار تتغلغل في جدرانها مع مرور الوقت ما يؤدي إلى النشّ والتفتُّت التدريجي للباطون، خصوصاً أن معظمها بُني من الحجارة الرملية التي تتشرّب الماء بسهولة كالإسفنج.
تهميش
ويُلقي تدمري بعض اللوم على الدولة التي تقاعست عن واجباتها تجاه المباني بعد الحرب. حيث «قامت عبر وزارة المهجّرين ومجلس الإنماء والإعمار بترميم إعادة إعمار الكثير من المناطق اللبنانية وهمّشت طرابلس».
لكن المسؤولية لا تقع بأكملها على الدولة وحدها، بحسب المهندس، بل على «قاطني هذه الأبنية، خصوصاً التراثية منها، التي ورثوها عن أجدادهم وسكنوها حتى منتصف القرن الماضي، ثم مع التوسع العمراني هجروا هذه البيوت وانتقلوا للعيش في الأحياء الحديثة، وحلّ مكانهم نازحون من الأرياف بإيجارات متدنّية لا تساوي شيئاً ولا تسمح لصاحب العقار بترميمه مع التكاليف العالية جداً، فيتغاضى المالك عن الأمر ويتساهل كونه لا يسكن في المبنى». كذلك تطرّق إلى قانون الإيجارات المجحف الذي يمنع مالكي العقارات من رفع الإيجارات.
هبات في مهبّ الريح
ويرى تدمري أن ما شفع بالمدينة حتى الآن هو أن المماليك يوم بنوها جعلوها ثابتة على شكل قلعة محصّنة وأتت كل المباني متلاصقة، مبنية على عقود حجرية أصيلة وقوية، وكلّها مسنودة على بعضها البعض لتقاوم الزلازل ولتكون متاهةً لجيوش الأعداء إن دخلوها. وهذا ما ساعد المدينة القديمة على الثبات والصمود على مدى 700 سنة.
وكشف أن «الهبات التي قُدّمت على مرّ السنين لترميم الأبنية السكنية ذهبت في مهبّ الريح، وكانت الحجة الأولى والدائمة ان هذه الأبنية ذات ملكية خاصة وليست عامةً وبالتالي لا يمكن ترميمها». وقال: «مشروع حماية الإرث الثقافي الذي مُوّل بقرض من البنك الدولي عبر مجلس الإنماء والإعمار منذ 12 سنة، عمل فقط على تحسين واجهات الأبنية المطلّة على المسالك الرئيسية للأسف أي ما نسميه بالماكياج الخارجي الذي لا قيمة له ولا يحمي مبنى متداعياً من الداخل». ويمكن اليوم وبالعين المجرّدة مشاهدة تداعي هذه الأبنية التي تمّ تجميلها ظاهرياً.
وعن منطقة باب التبانة التي تُعتبر الأكثر اكتظاظاً من حيث عدد السكان على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ومنطقة القبة، يحذّر تدمري من الكارثة الآتية «خصوصاً مع دخولنا موسم الشتاء والعواصف والسيول التي لن يصمد الكثير من الأبنية أمامها». مشيراً إلى الأبنية الكثيفة التي بُنيت «بازارياً» في منطقة جبل محسن ونهر أبو علي وذلك «مراعاةً للوضع الاجتماعي والمادي للنازحين من الأرياف كعكار وغيرها والذين يفتقرون إلى القدرة على تملّك مساكن بأسعار طبيعية، فتمّت عملية البناء بمواد رديئة وتمديدات صحية هشة وبنى داخلية وتحتية لا تصمد أكثر من 100 سنة كحد أقصى، زِد عليها القذائف والعوامل الطبيعية المُهلكة التي أدت إلى تآكل أعمدة الأساس».
وأضاف: «بعد انهيار مبنى الأشرفية، شعر أهالي هذه الأبنية بالخوف وبدأوا التوافد إلى البلدية لتقديم شكاوى عن مساكنهم التي بدأت تُنذرهم بالسقوط» وبلغت هذه الملفات حتى اليوم 400.
أما عن الحلّ فيكمن في «إخلاء هذه المناطق بالكامل، تدمير المباني المتداعية وإعادة إنشاء مربعات سكنية تخضع لشروط البناء والتنظيم والسلامة العامة». وهو ما يستبعد حصوله في دولةٍ مفلسةٍ لا حول لها ولا قدرات. وختم: «مدينتنا وتراثنا يُسلبان منّا… لو تمّ إدراج طرابلس على لائحة التراث العالمي لكانت الأونيسكو اليوم والجهات الدولية تحافظ عليها وتقوم بترميمها كما يجب».
التدعيم أو الإخلاء
أما رئيس بلدية طرابلس أحمد قمر الدين، فأكد أن دور البلدية ينحصر في إحصاء الأبنية المتداعية واستقبال الشكاوى كما وإطلاق إنذار للمالكين بضرورة التدعيم والترميم أو حتى الإخلاء. إلا أنّ الإمكانات المادية الغائبة تحول دون تشكيل خلية متخصّصة تهتمّ بالموضوع وتصل بهذه المباني إلى برّ الأمان.
وأكد أن «المخالفات في هذه المساكن لا تُحصى، ففضلاً عن المواد الهشة المستخدَمة، فإن عملية البناء تتم فوق مبانٍ متداعية أصلاً ولا تتحمل المزيد من الوزن على أسقفها وهو ما يزيد الأمر سوءاً».
وعن حادثة مدرسة الأمريكان التي راحت ضحيتها الطالبة ماغي محمود بداية الشهر الحالي، فقال: «المدرسة ليست متداعية ولا آيلة للسقوط، لكن ما حدث هو أنه ومنذ حوالى الست سنوات قام مسؤولو المكان بتوسيع الصف وجمع غرفتَين في واحدة عبر إزالة الحائط بينهما، ولجهلٍ أو خطأ هندسي تُرك الجسر معلقاً على السقف بدون داعمةٍ يستند إليها، ومع الوقت تفسّخ وتهاوى وسقط وحدثت الفاجعة».
وكشف عن مشروع حلّ قد يرى النور قريباً، وهو نتيجة تعاون بين البلدية ونوّاب المنطقة، ويرتكز على «إنشاء وحدات سكنية خارج نطاق وسط طرابلس، ليسكنها أهالي الأبنية المتداعية إلى حين ترميم مناطقهم وبيوتهم، تماماً كما حدث يوم قرّرنا ترميم خان العسكر جرّاء فيضان النهر في العام 1955 والذي كان مأهولاً بالكامل». مشيراً إلى أن المشروع مكلف ويحتاج لوقت ليس بقصير، وهم الآن في صدد البحث عن مصادر تمويل لتنفيذه على دفعات.