كتب محمد دهشة في “نداء الوطن”:
تتناسل الأزمة المعيشية والاقتصادية لتمتدّ الى مختلف نواحي الحياة، ولم تعد تداعياتها السلبية محصورة بتردّي خدمات الدولة الاساسية، ولا بتفكّك مؤسساتها، بل وصلت الى قطاعات مهنية وحرفية تراثية تواجه خطر الانقراض والاندثار، أو تكاد.
داخل سوق «البازركان» الأثري في صيدا الذي يشكّل جزءاً من تاريخ المدينة القديم منذ 500 عام والمشهور بأزقّته وعقوده وقناطره ودكاكينه التراثية، يتمسّك بعض حرفيّيه بمهنهم كالقابض على الجمر، يعاندون عوامل الزمن والتطوّر، وقد أضيف عليهم الهمّ المعيشي لجهة البيع وتأمين متطلبات الحياة.
داخل أحد المحال العتيقة، يجلس المعلم صلاح داغستاني الملقب بـ»ابو عبد الله الطرابلسي»، على الأرض، لينجّد لحافاً من الصوف بأدواته البسيطة: إبرة وخيط ومدقّة ومقصّ وكشتبان، وكثير من الصبر والتأنّي، يواظب على مهنته منذ 60 عاماً، ويقول: «ثمّة فرق شاسع بين الأمس واليوم، لم تعد تسمن أو تغني عن جوع»، قبل أن يردف بثقة: «أحب هذه المهنة كثيراً، صحيح أنّها متعبة بس صارت بدمي». وأوضح أنّها «بدأت تتراجع كونها موسمية في حال قرّر العرسان تجهيز منزلهم بالفرش أو اللحف أو التكّايات، ويزداد الاقبال عليها في الشهر التاسع من كل عام أي قبل الشتوية ثم تتراجع، وقد أضيفت إليها أخيراً الأعباء المالية في ظلّ الأزمة المعيشية وقلّة السيولة عند الناس، وترتيب أولوياتهم لجهة توفير الطعام والشراب قبل كلّ شيء آخر».
وبحرقة لا تخلو من حسرة، وبما يشبه النعي، قال المعلمّ «ابو عبدالله» إن مصيره الحتمي الإنقراض، «لذا لم أحاول تعليم أصول المهنة لأيّ من أولادي الخمسة، بدليل أنّ التوصية على التنجيد كانت تتمّ في السابق قبل أشهر عدّة، أمّا اليوم فنرقّع ونصلّح فقط».
ويؤكّد المعلم مصطفى عبد الرحمن القاضي (67 عاماً)، أنّه ورث المهنة عن والده، ويقول لـ»نداء الوطن»: «مضى علي في هذه الحِرفة نحو نصف قرن كامل، وعملت في أكثر من مهنة ولكنّني استقرّيت هنا في التنجيد، والعمل تراجع ولكنّنا نعمل من أجل لقمة العيش وبدلاً من البطالة، وشهر تشرين الثاني هو ذروة العمل ولكنّه للأسف تراجع الى حدّ الركود». ويوضح أنّ «غالبية الناس باتت تفضّل الجاهز رغم ان أسعاره أغلى والقطن ليس من الباب الأول، بينما هنا أرخص وأفضل، الآن نقضي الوقت بإصلاح القطع، نأخذها وننزل القطن منها و»منّدفه»، أو نغيره، من بعد أن ننتقي «الوجه الجديد» الذي يريده الزبون وأخيراً، التعبئة».
وسوق البازركان لا يقتصر على المنجّدين فقط، ففيه الكثير من المهن المتداخلة وهو يمتدّ ممّا يسمّى «البوابة التحتا» قبالة القلعة البحرية غرباً إلى ما يسمّى «البوابة الفوقا» قبالة القلعة البرّية جنوباً، موازياً عرض شارع «الشاكرية» الذي يرسم حدود المدينة القديمة سابقاً ويلتحم مع أسواق النجّارين والصاغة والحيّاكين والعطّارين والكندرجية»، في تناغم يشكّل وحدة متكاملة من نسيج الحياة.
ويضمّ السوق على جانبيه عدداً من المعالم الأثرية التاريخية والدينية، أبرزها كنيسة مار نقولا التابعة لطائفة الروم الأرثوذكس، والمبنى القديم لمدرسة عائشة أم المؤمنين الذي يعود بناؤه إلى نحو 126 عاماً، ومتحف دبّانة عودة، والحمام الجديد، وشارع أباظة نسبة إلى الفنان رشدي أباظة.