كتبت كلير شكر في “نداء الوطن”:
سيمرّ وقت طويل قبل أن يرمي رئيس “التيار الوطنيّ الحرّ” جبران باسيل خطابه الأخير في سلّة النسيان. الأرجح أنّه سيبقى محفوراً في ذهنه وذاكرته لوقت طويل. ليس لمضامينه الاستثنائية، كونه لم يخرج عن سياق التوقعات المنتظرة منه ازاء الاستحقاق الرئاسي، لا بل لارتباطه بالحدث المحيط بذلك الخطاب، والمقصود به “إنجاز الترسيم”.
بدا باسيل وكأنه في قمّة زهوه، يثأر من السنوات الثلاث الصعبة التي شهدها مذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين. من كلّ انتقاد واتهام و”تقريع” طاله. من كلّ فشل أصيب به، عن قصد أو عن إهمال أو سوء إدارة. من كلّ فخ نُصب له ووقع فيه مكابرةً. من كلّ إحباط تعرّض له بعدما كبرت كرة الأزمات وراحت تهدد الهيكل بالسقوط فوق رؤوس الجميع.
سيحفر الخطاب مكانة له في مسيرة رئيس “التيار الوطنيّ الحرّ” لأنّه مؤمن ومقتنع أنّ حقبة جديدة تنتظره ستعيده إلى طاولة الكبار بعدما وضعته العقوبات الأميركية على لائحة المغضوب عليهم، وإذ بالترسيم قد يعيده إلى قائمة المرضى عنهم.
ولهذا استعان بمفردات التهكّم و”التنكيت” التي طالت خصومه بالتحديد، بشكل يعكس ارتياحه الداخلي لمسار الأمور وتطوراتها عشية انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، على نحو يهدف إلى حرف الأنظار عن كلّ الاخفاقات التي حفل بها العهد، وقد التصق به وصف “جهنم”، إلى الانجاز الأكبر الذي تحقق في الأيام الأخيرة والمتصل بالترسيم، في محاولة لاختصار كلّ مسيرة ميشال عون الرئاسية بعنوان واحد: عهد الغاز والنفط. في أول أيامه وضعت المراسيم، وفي آخرها جرى الترسيم البحري… كلّ ذلك بهدف واحد: التمهيد للمرحلة المقبلة.
في الواقع، إنّ الرصد التفصيلي لمواقف باسيل ازاء الاستحقاق الرئاسي، يبيّن أنّه انتقل من المربع الأول، إلى الثاني. التهويل بالترشّح. في المرّة الأولى قال: “مش محمّس ومش مقتنع لسببين. الأول ما شايف البلد ولا شايف حالي بـ mood أعمل معركة تعطيل نصاب وتأمين أصوات لفوزي وحشر حلفائي. الموضوع لا يتعلّق بإذا عندي حظوظ بالفوز أو لا، لأن كلّ مرشّح يصنع حظوظه. والسبب الثاني أنّ ميشال عون وما خلّوه، أنا أكيد ما رح يخلّوني إشتغل أيضاً. وحابب فعلاً أعرف مين يلّي رح يخلّوه يشتغل”.
في المرّة الثانية، تولى الرئيس عون وضع المعادلة القاتلة بحقّ بقية المرشحين. قال: “جبران باسيل غير مرشح، والآخرون لا تتوافر فيهم الشروط الضرورية لتولي المنصب”.
وها هو باسيل يتقدّم خطوة للأمام ليشير: “ما ترشّحنا بعد على الرئاسة، حتّى ما نحشر حدا ولا نعقّد الموضوع. عم نسهّل بس مش لحتّى حدا يستخف او يستهتر او يقطّع! (انتبهوا احسن ما نغيّر رأينا!) لا بقى تنتظروا وتراهنوا، وتقولوا بكرا الفراغ بيتعّب الناس… نحنا ما منتعب”.
هذا يعني، أنّ احتمال أنّ يغيّر رأيه صار وارداً، وهو بالأساس، احتمال لم ينتف أبداً وفق عارفي الرجل، لكن اتفاق الترسيم أحيا آماله على نحو كبير وجدّي ولهذا سارع إلى التذكير إعلامياً عبر وكالة “رويترز” بدوره في المفاوضات البحرية، مشيراً إلى أنه يستطيع أن يربط “سياسياً بالأحزاب في الداخل والخارج… ومن الواضح أننا نجحنا”.
أضاف: “هذا لا علاقة له بالعقوبات التي سترفع لأنها غير عادلة”، لافتاً إلى أنّه “يجري عملية استئناف في الولايات المتحدة من خلال التواصل مع وزارة الخزانة والمطالبة بتفاصيل حول الملف وذلك وفقاً لقانون حرية المعلومات”.
واذا جمعنا هذا التطور إلى موقفه القائل أنه “لن نقبل برئيس مش صاحب حيثية شعبية ونيابية او مش مدعوم من كتلة نيابية وازنة شعبياً ومسيحياً بالتحديد ومنرفض تعيين رئيس لنا من الخارج”، فتصير المعادلة محكومة بمخرج واحد: لا مرشّح إلّا جبران باسيل.
بهذا المعنى تفهم كلّ الرسائل التي وجهها في خطابه “التشرينيّ”:
أولاً، توجّه إلى الجالسين قبالته من مرشّحين في “التيار الوطنيّ الحر” وتحديداً ابراهيم كنعان وألان عون اللذين يعتقدان، كما يعتقد بعض زملائهم من النواب العونيين، أنّه بامكان واحد منهما أن يكون “الخطة ب” للتيار اذا استمرّ الفيتو ملتصقاً بجبران باسيل، خصوصاً وأنّ العقوبات الأميركية ليست وحدها من تقف عائقاً أمام طموحاته الرئاسية، لا بل إنّ خصوماته الداخلية، التي تحمل طابعاً شخصياً، لا تقلّ تأثيراً على نحو سلبي على ترشيحه، على خلاف نواب تياره الذين تربطهم شبكة علاقات جيّدة مع بقية المكونات.
باسيل يعرف جيداً الحركة التي يقودها النواب المتحمسون للخطة “ب” وهؤلاء ليسوا بقلّة. ولكن أياً منهم لم يجرؤ بعد على مواجهته في الاجتماعات الموسّعة على قاعدة البحث عن مرشح للتيار قادر على استقطاب بقية القوى، ولو أنّ بعضاً من هؤلاء تحدث علانية عن ضرورة البحث في اسم ثان. ويفترض بعد الانتهاء من الجولة لعرض ورقة الحزب، أن ينتقل النقاش إلى الأسماء. ويمكن حينها أن يحصل الحوار وجهاً لوجه. وها هو يستبق الموعد بتحديد قواعد جديدة للاستحقاق.
ثانياً، تقصّد باسيل قطع الطريق أمام أي حوار مفترض مع رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية سواء من خلال سلّة المواصفات التي سردها والتي تبدأ بالحيثية الشعبية، أو من خلال التلويح بامكانية ترشّحه بعد حين.
ثالثاً، كان “حزب الله” هو المقصود غير المباشر من الكلام الرئاسي من باب تلويح باسيل برغبته بالقفز إلى الحلبة الرئاسية بعد إقفاله الباب أمام بقية الترشيحات ولو أنّه ادعى العكس.