كتب ثائر عباس في “الشرق الأوسط”:
في العامين الماضيين، بدأ لبنان يتحول إلى نقطة «تسرب» للمهاجرين إلى أوروبا، أكثر من 85 رحلة في العام الحالي وحده تم تسجيلها. يقول مصدر أمني لبناني إن عمليات تهريب البشر كانت موجودة قبل الأزمة، لكنها كانت محصورة ومحدودة، وتتركز غالباً في تهريب البشر عبر الحدود إلى لبنان، أما الآن فالأمور تتفلت بشكل كبير.
آلاف المهاجرين من لبنان وسوريا ومن الفلسطينيين في البلدين يرمون بأنفسهم حرفياً في البحر في مقامرة هدفها الوصول إلى أوروبا حيث الحلم بحياة أفضل. نجح ركاب 38 مركباً العام الماضي في الوصول إلى أوروبا، وفشل ركاب 46 رحلة، فيما كانت الكارثة بغرق قاربين بمئات من الهاربين من شظف العيش في بلادهم، وحملتهم معها إلى قعر البحر، فلفظ بعضهم أمواتاً، واحتفظ بغيرهم.
في غرفة المتابعة الخاصة بملاحقة مهربي البشر التي أنشأها الجيش اللبناني، ثمة عناصر أمن يلاحقون أدق التفاصيل، ويجمعون إفادات المهربين والهاربين، لرسم صورة متكاملة لعمليات التهريب التي تنشط بلا هوادة من الشاطئ اللبناني.
الصورة التي يرسمها مصدر أمني لبناني التقته «الشرق الأوسط»، كما في شهادات العديد من ركاب الرحلات الفاشلة وأقاربهم، تظهر يأس الناس الذين يلقون بأنفسهم وبأطفالهم في رحلة محفوفة بالمخاطر، كما تظهر جشع المهربين الذين يخاطرون بحياة هؤلاء من أجل حفنة من الدولارات جمعها الركاب ببيع آخر ما يملكون للصعود على متن رحلة يكون الموت غرقاً أحد خياراتها.
تتجه رحلات المهاجرين كلها إلى إيطاليا، بوابة الاتحاد الأوروبي للهاربين من المنطقة
– لماذا إيطاليا وليس قبرص الأقرب أو اليونان؟
يقول المصدر: «صحيح أن الطريق إلى إيطاليا أطول وأصعب وأخطر، مقارنة بقبرص القريبة والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة من لبنان، أو باليونان التي لا تبعد كثيراً عن قبرص، لكن لقبرص اتفاقية لمنع تهريب البشر مع لبنان، وبالتالي، فهي تعيد كل المهاجرين إلى لبنان، حتى الذين تنقذهم أحياناً في البحر، أو تعترضهم بحيرتها بالقرب من مياهها الإقليمية. أما اليونان، فهي تتعامل بشراسة مع زوارق المهاجرين، لكن في إيطاليا يجري العكس تماماً. فالإيطاليون يساعدون المهاجرين ويؤمنون لهم الخدمات الأساسية من طعام وغذاء وعلاج، بمجرد دخولهم مياههم الإقليمية، كما أن إيطاليا لا تحتجز المهاجرين، بل تسمح لهم بالتجول في أراضيها، ومنها إلى بقية أراضي الاتحاد الأوروبي بانتظار صدور قرارات المحاكم».
حتى في إيطاليا يختار المهربون الأماكن التي ينزلون فيها، فهم يختارون «رأس الجزمة»، التي تشبهها خريطة إيطاليا، ويتجنبون المناطق الأبعد «فتضاريسها صعبة وسكانها متوحشون» كما قال أحد الموقوفين في التحقيقات مع الأجهزة اللبنانية.
تستغرق الطريق إلى إيطاليا ما بين 8 و10 أيام، تبعاً لحال الطقس، كما أنها قد تطول أحياناً، بسبب اضطرار الزورق للمناورة بعيداً عن الدوريات القبرصية واليونانية أو بسبب أحوال الطقس، أو الأعطال، فيضطر الزورق للوقوف في مكانه لأيام أحياناً.
عندما يصل الزورق إلى المياه الإقليمية، يقوم القبطان الذي يستعين بأجهزة «جي بي إس» وهواتف الأقمار الاصطناعية، بطلب النجدة من خفر السواحل الإيطالي، ومع تلقيه الاستجابة، يبدأ مباشرة بإغراق القارب، لمنع أي دليل قد يؤدي لإثبات بلد المنشأ والجهة التي انطلق منها، ويقفز الجميع في البحر بانتظار الدوريات الإيطالية التي تجمع المهاجرين وتنقلهم إلى أماكن تجمع خاصة. في إيطاليا يرفض المهاجرون إعطاء أي أوراق ثبوتية، فيعطيهم الجانب الإيطالي خياراً من اثنين: الأول تقديم طلب لجوء إلى إيطاليا ودخول النظام الخاص بالهجرة ويتم أخذ بصماته، أو يعطى مهلة لمغادرة الأراضي الإيطالية، وهو الخيار المفضل لدى أكثر من ثلاثة أرباع المهاجرين، الذين يكونون على تواصل مع أقارب أو معارف لهم في دول أوروبية أخرى يذهبون إليها ويستقرون بمساعدة من هؤلاء، سواء المساعدة المدفوعة أو مساعدة الأقارب.
– سيناريو التهريب
أماكن التهريب من شاطئ طرابلس حتى العبدة عند الحدود السورية، هذا ملعب المهربين، المنطقة واسعة وصعب ضبطها أمنياً.
يبدأ سيناريو التهريب مع «السمسار» الذي يقوم بجمع المسافرين والاتفاق معهم على تفاصيل الرحلة والدفع الذي يتم على مراحل، أولها دفعة مقدمة، وآخرها دفعة يتلقاها المهرب في لبنان عبر أقارب أو أشخاص موثوقين من المهاجر والمهرب بعد ضمان وصوله إلى أوروبا.
يدفع الراكب ما بين 4 إلى 5 آلاف دولار، لكن يتم اعتماد تسعيرة خاصة للعائلات والمجموعات. غالباً ما يتم بيع مسكن أو ذهب أو عقار، في رحلة مقامرة، إذا انتهت بالفشل، يكون قد خسر كل أمل له. ويتم عمل تخفيضات على سفر الأطفال، ما فاقم من عددهم. ويروي الركاب أن ما يدفعونه قد يتضمن مبيت ليلة أو أكثر في ببنين بانتظار الانطلاق، وقد تكون الإقامة هذه مدفوعة من جيوبهم. وهو ما فتح باب رزق إضافياً لأهالي ببنين حيث يتوافد الركاب من مناطق لبنانية، كما يتم تهريبهم من المدن السورية. وهكذا أصبح ثمة تعاون بين المهربين البريين الذين يأتون بالركاب من سوريا، والمهربين البحريين الذين ينقلونهم إلى أوروبا. وتؤكد روان المانع قريبة الضحية مصطفى مستو، أن ابن عمتها تمت غوايته وإقناعه بالسفر من قبل صديق له تبين أنه قريب المهرب الرئيسي بلال نديم ديب، وقد دفع في المقابل خمسة آلاف دولار عن كل شخص، فيما دفع عن أولاده الثلاثة خمسة آلاف أخرى، وهي جميعها ديون، لم يكن يملك منها فلساً واحداً.
في هذه الأثناء، يكون المهرب قد أنجز عملية شراء المركب المخصص للصيد، وسعره يتراوح ما بين 35 إلى 50 ألف دولار. أما القارب الأخير الذي غرق قبالة طرطوس فقد اشتراه المهرب بـ36 ألف دولار. يتم نقل الملكية إلى أحد المسافرين غالباً، والذي ينال بموجب الاتفاق سعراً تفضيلياً، أو عدداً من الركاب الإضافيين يتقاضى هو منهم أموالاً، فصاحب المركب هو من سيتعرض غالباً للملاحقة القضائية في لبنان بعد انكشاف أمر الرحلة، وبهذا يكون المهرب «خارج الصورة».
يخرج القارب بشكل قانوني من الميناء الخاص بالصيادين، أوراق ثبوتية شرعية وهوية سائقه، ويتعرض للتفتيش من قبل الأجهزة الأمنية، فلا يجدون ما يوحي بالهجرة، لا ركاب ولا كميات كبيرة من الوقود ولا أغذية زائدة على الحد ولا سترات نجاة.
هذه المعدات كلها يتم تحميلها لاحقاً. الوقود ومعدات الإنقاذ والأغذية يتم تخزينها في منازل قريبة من الشاطئ، ينال أصحابها أموالاً من المهربين لقاء «استضافتها»، أما الركاب، فيتم تجميعهم في قوارب صغيرة من مناطق متفرقة من الشاطئ، بهدف عدم لفت الأنظار. غالباً لا يحمل هؤلاء أي أمتعة، فقط بضعة أكياس أو حقائب ظهر، كأي متنزه آخر.
عند الوصول إلى القارب، غالباً ما تبدأ المفاجآت. تفيض الأعداد عن المتوقع. القارب يتسع لعشرين شخصاً، يتم الاتفاق على تعبئته بـ50، لكن عند الوصول يرتفع العدد إلى ما هو أكثر بكثير، كحال القارب الأخير الذي غرق قبالة طرطوس السورية حيث وصل العدد إلى أكثر من 125 شخصاً. في القارب قبطان ومساعده، وميكانيكي ومسعف، وكل من هؤلاء «يمون» بإحضار مرافقين له من أفراد عائلته. فالقارب وكل من فيه لا ينوون العودة إلى لبنان، وهؤلاء ليسوا تجاراً، بل زبائن أيضاً، والدليل على ذلك غرق أفراد عائلة قبطان «قارب الموت» الذي غرق قبالة طرابلس اللبنانية في أبريل (نيسان) الماضي حيث قضى أفراد عائلة القبطان الفلسطيني أسامة الحسن معه.
وتؤدي الحمولة الزائدة إلى زيادة عامل الخطر، وعندما يتدخل الطقس العاصف، تحدث الكارثة. فقارب مماثل لا يمكن أن يسير بسرعة تفوق الميلين في الساعة، وكلما زادت حمولته زادت عوامل الخطر، التي لا يحب المهربون حسابها، سواء لنقص خبرة القبطان ومساعديه، أو لجشع المهربين.
يحاول الجيش اللبناني والقوى الأمنية مكافحة الظاهرة ما أمكن، رغم قلة العديد والعتاد، يكشف المصدر الأمني عن ضبط 46 عملية تهريب في العام 2022، مقابل 38 عملية نجح أصحابها بها، فيما سجل غرق مركبين، وإنقاذ مركب واحد تعطل في عرض البحر، علماً بأن آخر مركب تعرض للعطل مرتين في البحر قبل غرقه.
الهاربون متشابهون. القبطان يشبه الركاب بالهدف، ويمتاز عنهم بالتسهيلات والنفوذ الذي يحصل عليه من خلال مساعديه المسلحين غالباً. أما المهربون فهم قصة أخرى.
يقول المصدر الأمني إن السلطات اللبنانية حددت إلى حد كبير الشبكات التي تعمل في التهريب وتحاول تفكيكها قدر الإمكان. ولا ينكر المصدر ما آلت إليه حال بلدة ببنين الشمالية التي يقول المصدر إن أهلها من الملمين بالبحر عادة، فالصيد كان التجارة الرائدة فيها، لكن في الآونة الأخيرة بدأت الأمور تأخذ منحى آخر. عائلات بأكملها تمارس التهريب والهرب. فشقيق الموقوف بلال ديب المتهم بترؤس إحدى الشبكات كان قد غادر على إحدى هذه القوارب مع عائلته، وهو مقيم حالياً في أوروبا.