ألقى بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر خلال الصلاة الافتتاحية في الجمعية العامّة لمجلس الكنائس العالمي -كالسروه – ألمانيا عظة جاء فيها:
“أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء بالربّ يسوع المسيح، سلامٌ لكم ومحبّةٌ من لدن ربّنا يسوع المسيح. جئتكم حاملاً سلامًا من سواحلِ فينيقيةَ التي بشّرها الربُّ يسوعُ نفسه والرسلُ مِن بَعدِه، ومن دمشقَ موضعِ استنارة بولس رسول الأمم ومكان توبته، ومن أنطاكية الرسوليّة التي بشّرت جميع الأمم بإنجيل المصالحة والخلاص، والتي فيها دُعي التلاميذ مسيحيّين أوّلاً (أعمال ١١: ٢٦). منذ الفترة الرسوليّة، تقف أنطاكية مدافعة عن حريّة أبناء الله لكي يعبدوا الله بالروح وبالحقّ، وحمت كنائس المدن الأمميّة من التمييز والإقصاء، فصار يُنادى في كلّ أصقاع الأرض بمحبّة الله التي ظهرت لنا بموت المخلّص وقيامته. وربّما يعود الفضل لأنبياء المسيح والمعلّمين في أنطاكية: بَرْنَابَا، وَسِمْعَانُ الَّذِي يُدْعَى نِيجَرَ، وَلُوكِيُوسُ الْقَيْرَوَانِيُّ، وَمَنَايِنُ الَّذِي تَرَبَّى مَعَ هِيرُودُسَ رَئِيسِ الرُّبْعِ، وَشَاوُلُ (أعمال ١٣: ١)، أنّنا نجتمع هنا اليوم، نحن جميع قبائل الأرض من مختلف البلدان والقوميّات والأعراق، لنسبّح المسيح إلهَنا الذي وهبنا المصالحةَ مع الآب وخدمةَ المصالحة (٢ كور ٥: ١٨).
اجتمعنا اليوم لكي نتذكّر ونهتف بفرح وإنشاد: ”محبّةُ المسيح تحثُّ العالم على المصالحة والوحدة“. الله محبّة ومحبّتُه تحرّكنا وتوجّهنا وتعلّمنا أن نقتدي بها كوصيّة العهد الجديد الوحيدة التي تشمل في عمقها كلّ الوصايا وتكمّلها (رو ١٣: ٩-١٠؛ غل ٥: ١٤)، لأنّها تُخاطب الإنسان الجديد بالروح لا بالحرف.
يتّفقُ الرسلُ كتّابُ العهدِ الجديد على أنّ محبّة الله لنا قد ظهرت بأسمى تعبير عنها في موت المسيح من أجلنا. كما يمكننا القول إنّ كلّ التدبير الخلاصيّ بتجسّد الله الكلمة وحياته على الأرض كإنسان، وتعليمه وحواراته مع الناس من أجل نشر إنجيل الملكوت، كلّها تُظهر محبّةَ اللهِ وعطفَهُ على البشر.
نجد في الإنجيل بحسب يوحنّا نماذج عن لقاءات للمسيح مع أشخاص يختلف كلٌّ منهم عن الآخر، منهم نثنائيل الرسول، ومنهم المعلّم الفرّيسيّ الشهير نيقوديموس، ورجلٌ مُقعَدٌ عند بركة بيت حسدا، وضابطٌ مَلَكيّ، وامرأةٌ زانية، ورجلٌ أعمى، وأمثلةٌ أخرى عديدة. لكنْ، ثمّة نقطةٌ مشتركةٌ بينَ جميعِ هذه اللقاءات، هي محبّةُ اللهِ وعطفُهُ على الإنسانِ من أجل خلاصه. ففي جميعِها تَظهرُ محبّةُ المسيحِ الشافيةُ من الخطيئة، والتي يَتبعُها تجاوبُ الإنسان مع هذه المحبّة كما يليق. حين قال الربّ يسوع لنيقوديمس: ”هَكَذَا أَحَبَّ ٱلْلَّهُ ٱلْعَالَمَ، حَتَّى إِنَّهُ بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلَكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ“ (يو ٣: ١٦)، تابع في المقطع ذاته مخبرًا عن فداحة دينونة الذين يفضّلون الظلمة على النور، لا سيّما بعد أن أتى النور إلى العالم (يو ٣: ١٩)، فلا أحد يحبّ النور ويأتي إليه إلّا إن كان قد تاب عن السيّئات التي يفعلها، وأحبّ الحقّ (يو ٣: ٢٠-٢١) وعاش بحسبه وسلك في النور على الخطى التي سلكها المسيح (أنظر ١ يو ٢: ٦).
ومن بين اللقاءات التي دوّنها الإنجيليّ يوحنّا يتميّز لقاء مع امرأة سامريّة أسهب الإنجيليُّ يوحنّا في وصف تفاصيله ومستتبعاته الخلاصيّة. وفي مطلع القصّة يذكر الرسول يوحنّا أنّ ربّنا وإلهنا يسوع المسيح، عندما أراد الانتقال من اليهوديّة إلى الجليل، ”كَانَ يَجِبُ أَنْ يَمُرَّ بِاِلسَّامِرَةِ“. وتُطلعنا الدراساتُ الكتابيّةُ على أنّ السبب الذي أوجب المرور في السامرة لم يكن جغرافيا المنطقةِ ولا شبكةَ طُرُقِها، فقد كان هناك طرقٌ أخرى يفضّلها اليهودُ في انتقالهم بين اليهوديّة والجليل، بل كانت محبّةُ إلهِنا للسامريّينَ أيضًا السببَ المُوجِب، ومشيئتُه أن يزورَ مدينتَهم لكي يلتقيَ مع المرأة السامريّة، فتؤمنَ هي ويؤمنَ جميعُ أهلِ السامرةِ ”بِمُخلِّصِ العالَم“، فَتَؤُولَ محبّةُ اللهِ مُجَدَّدًا إلى خلاصِ الكثيرين.
تَعِبَ اللهُ الكلمةُ مِنَ المَسِيرِ إلى مدينة السامريّينَ، وَعَطِشَ، ومَرَدُّ ذلك أنّه اختار أن يصير إنسانًا مثلَنا. فاختبر كإنسانٍ تعبَ المحبّةِ المُضَحِّيَةِ مِن أجلِ الآخَر، لا سيّما الضعيف. وعندها جلس عند بئر يعقوب، وحاور امرأة سامريّة، متخطّيًا كلَّ العوائقِ الاجتماعيّة لكي ينيرَ امرأةً خاطئةً ويَقُودَها إلى التوبة.
العائق الأوّل الذي تخطّاه كان الانقسامَ والكُرهَ الدينيَّ بين اليهودِ والسامريّين. إنّه قصدَ العبورَ مِن مدينة السامريّين، وأرسلَ تلاميذَه ليبتاعوا طعامًا من المدينة، وطلب من السامريّة ماءً ليشرب، فيما اعتبر أحدُ المعلّمين الشهيرين في القرن الأوّل أنّ مَن يأكلُ مِن السامريّين كَمَنْ يأكلُ لحمَ خنزير. هذه تفاصيل يوردها الإنجيليّ يوحنّا عن عَمْدٍ لِيَفهَمَ القارئُ تصرُّفَ الربِّ يسوعَ الذي يبتعد عن التمييز والإقصاء ووضع العوائق العرقيّة والاجتماعيّة أمام الخلاص.
كما تخطّى الربّ يسوع عائقَ السُّمعةِ السيّئةِ التي التصقت بهذه المرأة السامريّة، ربّما بسبب سلوكها غير اللائق، كما يتبيّن لاحقًا من كونها تزوّجت خمسة رجال وهي الآن تعيش مع رجل سادس لم تتزوّجه. وهذا دفعها إلى السير إلى البئر في وطأة شمس الظهيرة، تجنّبًا للاختلاط بنساء أخريات، لأنّه لم يكن مُرَحَّبًا بها. لكنّ هذا لم يكن عائقًا من أن يلتفت إليها المسيح، فهو الطبيب الذي أتى من أجل شفاء المرضى لا الأصحّاء، ولكي يدعو الخطأة إلى التوبة، لا الأبرار (مت ٩: ١٢-١٣).
كما تخطّى الربُّ عائقَ اختلافِ الجنس. فإنّ مخاطبة رجل لامرأة على انفراد عند بئرٍ كان ليبدو تحدّيًا لكثيرين. ولذا أشار الإنجيليُّ صراحةً إلى غياب التلاميذ (آية ٤: ٨) وإلى تعجّبهم عندما عادوا ورأوه يحاور امرأة (آية ٤: ٢٧). فقد كان حكماءُ اليهود يشيرون على الرجال ألا ينخرطوا في حوارٍ غير ضروريّ مع النساء، ولذا أدرجوا مخاطبة النساء بين الأعمال التي تمنع الرجل من أن يُصبح حكيمًا ومن درس الناموس عند قدمَي معلّم حكيم.
كلّ هذه العوائق لم تمنع الربّ يسوع من أن يبشّر السامريّة والسامريّين بالماء الحيّ الذي ينبع لا من أورشليم ولا من سُوخار، الماء الذي يُعطيه المسيّا يسوع وحده لجميع الذين يؤمنون به.
استهجَنَتِ المرأةُ في البدايةِ أن يُخاطبَها شابٌّ يهوديٌّ، وتهكَّمَتْ به عندما سمعَتْهُ يُعلنُ عن الماء الحيّ الذي يعطيه، وهو لا يحمل دلوًا لاستقاء الماء. لكنّها ما لبثت أن استحسنَتْ كلامَهُ على ماءٍ لا يعطَشُ مَن يشربُ منه، فهذا سيوفّرُ عليها عناءَ العملِ الشاقّ. لم يَزْدَرِ ربُّنا وإلهُنا بمحدوديّةِ فهمِها لأسراره السماويّة، ولا بمقاربتِها للعطايا الإلهيّة من منظارِ الأنا الضيّق، بل كطبيب متأنٍّ، تابع يحاورها ويُعلن لها ذاته تدريجيًّا، لكي تُدركَ معرفتَه المطلقةَ بكلّ الأشياء. وعندما سمعَتْهُ يُخبرُها بكلّ ما فعلَتْ، عَرَفَتْ أنّها أمامَ شخصٍ يستطيعُ أن يحقّقَ كلَّ ما يَعِدُ بِه (أنظر رو ٤: ٢١). بعد ذلك، عَرَفَتْ أيضًا أنّه شخصٌ يَسمو على الاِنقساماتِ العِرقيّةِ والقوميّةِ والاجتماعيّة، فلا فرق عنده بين يهوديّ وسامريّ ويونانيّ، ولا بين رجل وامرأة، ولا غنيّ وفقير، ولا بين أهل شمال الأرض وأهل جنوبها، ولا بين من يختلف لونُ بَشَرَتِهم. هو يشاء أن يُعلن إنجيل المصالحة مع الله للجميع، كي يؤَمِّن الجميعُ حياتَهم له فيَخلُصوا. جاء كي يتعلّم جميعُ الناسِ السُّجودَ للآبِ بالروح والحقّ، فيَعبُدوا الآبَ لا بالمظاهرِ الخارجيّةِ والذبائحِ الحيوانيّة، بل بالروحِ والتوبة. يقدّمون أجسادَهم وذَواتِهم ”ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ“، بمثابة ”عِبادة عَقْلِيَّةَ“، بحسب تعبير الرسول بولس في رومية ١٢: ١. هؤلاء هم الساجدون الحقيقيّون الذين يعبدون الآب بعمل كلّ ما هو حقّ والسلوك في النور (أنظر يو ٣: ٢١).
كان لقاءُ المرأة السامريّةِ مع الربّ يسوعَ لقاءَ شِفاءٍ روحيٍّ مِن حُبِّ الظلمةِ والشهوةِ واهتمامِ الجسد، التي تسبّبُ العداوةَ مع الله (أنظر رو ٨: ٧)، فحصلت بنعمة المسيح على المصالحة مع الله، وتغيّرَتْ حياتُها وترتَّبَتْ أولويّاتُها، فأصبحَت مبشّرةً بالمسيح لِبَني قَومِها.
يخبرنا سرد الحوار مع السامريّة عن رغبة المسيح في شفاء الخطأة، وفي مصالحة الجميع فيه هو إلى جسد واحد. وتعلّمُنا المرأةُ السامريّةُ أنّ الجلوس في حضرة المسيح يغيّرُنا ويرفعُنا من الأفكار الأرضيّة وأعمال الجسد التي تَحرِمُنا من الشركة مع الله ومن ملكوته (غلاطية ٥: ١٩-٢١)، إلى ”فكرِ الروح“ والمصالحة بدم المسيح. اللقاء مع المسيح يعلّمنا المحبّة التي ”تتأنّى … ولا تتطلب ما لذاتها“ و”لا تصنع السوء“ لأحدٍ، المحبّة التي تكمّل ”ناموس المسيح“ (غل. ٦: ٢). إنّ السامريّة تدعونا نحن أيضًا إلى الإيمان بالمسيح من دون رياء، كي نحصل على الماء الحيّ الذي لا يعطش كلُّ مَن يَشرَبُ منه. فمن يؤمن بالابن يأتي إليه، إنّه هو الممتلئ من النعمة والحقّ، ومن ملئه نأخذ هذه الخيرات. هو الذي شهد وعلّمنا ما هو حقّ، كي نتعلّمَ منه الابتعادَ عن حبِّ الذات والمحبّةَ حتّى الموت. محبّةُ المسيحِ لنا ومحبّتُنا للمسيح التي تظهر بحفظنا وصاياه (١ يو ٥: ٢-٣) أصبحتا ركيزةَ حياةٍ جديدةٍ في مصالحةٍ مع الله، وفي وحدةٍ مع جميع الذين يحبّون اسمه.
اليوم هناك واجب إلهيّ يدفعني كي أطلب إليكم أن تختاروا العبور في الشرق الأوسط المتألّم، كما اختار المسيح أن يعبر من السامرة، وتنظروا إلى أحبّاءِ المسيح فيه، كما نظر هو إلى السامريّين، من دون استهتار بمن يختلف عنكم، ومن دون إقصاء لأبناء سورية ولبنان والعراق والأراضي المقدّسة، لا سيّما وأن أجداد هؤلاء قد خدموا إنجيلَ المصالحة ونشروه بين جميع الأمم.
إرفعوا الصوت ضِدَّ إقصاءِ أبناء الشرق الأوسط، وضِدَّ حرمانهم من الغذاء والدواء والتدفئة والعلاج، وَضِدَّ العقوباتِ والحصارِ الاِقتصاديِّ بحجّة الخلافات السياسيّة. اعترِضوا على تفريغ الأرض التي وَطِئَتْها قَدَما المسيحِ وعَمِلَ فيها الرسل، مِنَ المسيحيّين ومن صلواتِهم وتراتيلِهم التي تنزل من أزليّة المسيح. إرفعوا الصوت عاليًا من أجل كشف مصير مطرانَي حلب، بولس ويوحنّا، اللذَين يتعامى المجتمع الدوليّ عن قضيّتِهما منذ تسع سنوات ونيّف. اعترضوا أيضًا على استغلال المؤمنين الرازحين تحت العقوبات والحصار لاقتناصهم بالمال وتسهيل أمور حياتهم بشرط ترك كنيستهم واتّباع كنيسة أخرى. قِفوا بالفعل، لا بالقول فقط، وادعموا بمحبّةٍ مضحّيةٍ إخوةً لكم، وإن كانوا يتكلّمون لُغاتٍ قديمةً تختلفُ عن لُغاتِكُم، لكنّهم يحملون تقاليدَ بيئةٍ مسيحيّة رسوليّة أصيلةٍ مشبّعة بالمحبّة والتواضع والتخشّع.
هناك تصاريحُ كثيرةٌ تُكتَب رَفْعًا للعَتَب، ولإراحة الضمير من التغاضي عن تهميش بعض الإخوة والجماعات والمناطق. بينما عندما يكون هناك تعاطف حقيقيّ ومصلحة في شأن ما، تصبح التحركات جديّة وتستمرّ بإلحاح وبمنهجيّة فعّالة حتّى تحقيق المطالب. هل مسيحيّو أنطاكية لا يستحقّون الدفاع عنهم ضدّ الإقصاء والتمييز والتجويع والقهر والعذاب والألم والموت؟
الله يحبّنا، الله معنا، “عمّانوئيل”، إلى الأبد. هو سلامُنا وفرحُنا وحياتُنا وقيامتُنا، أصلّي معكم اليوم من أجل أن يكون لقاؤنا في هذه الجمعيّة العامّة الحادية عشرة لقاءً مع المسيح، يروينا من محبّته ويمدُّنا بالشفاء والتوبة، وينجّي جميعَ الناس من وباء كوفيد ١٩ الفتّاك، وكلِّ وَباءٍ ومجاعةٍ واضطهاد، ويمنحُ كلَّ العالمِ سلامَهُ الذي يفوق كلّ عقل.
لِيَحفَظْكُمُ الثالوثُ القدّوس، الآبُ والابنُ والروحُ القدس، ويَمْنَحْكُمُ التنقيةَ والاِستنارةَ والمجد، برحمته ومحبّته للبشر. آمين”.