كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
أخرجت سياسات مكافحة الفقر المواطن من تحت “دلفة” السيطرة المباشرة للأحزاب، ورمته “تحت مزراب” الزبائنية في الحصول على المساعدات الإجتماعية. فحصرت التقديمات المالية بخِمس عدد السكان الرازح 80 في المئة منه تحت خط الفقر، شرّعت أبواب المحسوبيات على مصراعيها، وفتحت المجال أمام أوسع عملية “استزلام” لتحصيل أبسط “الحقوق”.
البحث الذي تركز في مطلع العام 2020 على تأمين تمويل إجتماعي بقيمة 1.2 مليار دولار، يعوّض لمدة سنة واحدة على 750 الف عائلة أعباء رفع الدعم، لم يلبث أن بدأ يتقهقر تدريجياً. فأقر البرلمان في تموز 2021 قانون البطاقة التمويلية المخصصة لـ 505 آلاف عائلة بكلفة 556 مليار دولار. ومع العجز عن تأمين التمويل، انحصرت المساعدات مجدداً بـ 225 ألف عائلة فقط من ضمن برنامجي شبكة الأمان الاجتماعي” (أمان)، و”دعم الأسر الاكثر فقراً” (NPTP) المموّلين بشكل أساسي من البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار ومن جهات دولية أخرى.
تعزيز المحسوبية
عدد المستفيدين فعلياً من المساعدات الرسمية المعطاة بواسطة “أمان”، وبرنامج الاسر الاكثر فقراً لن يتجاوز 200 ألف، يشكلون أقل من 20 في المئة من مجمل عدد السكان. وهذا ما يدفع بقسم كبير من الفقراء الجدد المقدرة نسبتهم بـ 60 في المئة للتوسط أمام مرجعياتهم الطائفية، إما لادراجهم بالبرامج الاجتماعية، وإما لطلب مساعدات صحية وتعليمية وغذائية وحياتية تساعدهم على الصمود. هذا الواقع برز بشكل فاقع في الاشهر السابقة مع برنامج “التكافل الاجتماعي الوطني”، بحسب ورقة “استغلال الفقر: البلديات وطلبات المساعدات المستهدفة للفقر”. إذ لحظت أن “البلديات المفوضة بالتسجيل، قدمت حوالى 500 ألف طلب مساعدة منذ إطلاق الاستمارة على المنصة المخصصة في نيسان 2020”. واللافت بحسب الورقة أن “البلديات التي تسيطر عليها الأحزاب التقليدية، ولا سيما الثنائي الشيعي، قدمت العدد الأكبر من طلبات المساعدة”. ما عنى بحسب الورقة أن “التوزيع القائم على الزبائنية بواسطة القنوات الحكومية يظلّ هدفاً رئيساً للأحزاب السياسية، حتى ولو أُنشِئَت قنوات غير رسمية عند نضوب الموارد العامة”.
الطبقة الوسطى تنضم الى مجموع المحتاجين
هذا الواقع الذي بدأ ينحصر مع زيادة التشدد الخارجي، خصوصاً في ما يتعلق بضبط آليات توزيع مساعدات البنك الدولي، بحسب ما يصدر من تصاريح رسمية لن ينتهي كلياً، وقد يأخذ أشكالاً مختلفة. فـ”الزبائنية ستزداد لان المواطنين اصبحوا بحاجة أكثر للمساعدة”، يقول المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات د. سامي عطالله. ولعل الاخطر بالزبائنية الجديدة “إنضمام جزء من الطبقة الوسطى لمجموع المحتاجين لمساعدات السياسيين، بعدما كانوا خلال الفترة الماضية مكتفين”. وبرأي عطالله فان “ارتفاع معدلات الفقر من 30 في المئة، إلى حدود 80 في المئة يشكل دافعاً إضافياً لزيادة معدلات الاستزلام”.
تحقيق المآرب السياسية
الإنهيار المستمر والمتسارع منذ 3 سنوات شكل فرصة لتعزيز المنظومة موقعها في النظام المنفعي السائد، ولو على حساب “موت” البلد والمواطنين. وبدلاً من التدخل باجراءات إصلاحية جذرية وقفت المنظومة متفرجة على الانهيار”، يقول عطالله. فلم تكتف برفض أخذ الاجراءات الاصلاحية المطلوبة، بل انتهجت سياسات معاكسة تعزز مكانة أصحاب النفوذ والمال على حساب بقية فئات المجتمع. مع العلم أن الوصفات العلاجية ليست خافية على أحد. وقد بحّت الاصوات في الداخل والخارج بالمطالبة بتطبيقها. وعليه استفادت المنظومة من ضعف الفئات الضعيفة وحاجاتها من أجل تحقيق مآربها السياسية الخاصة. وقد نجحت بالفعل بتعطيل كل المبادرات الانقاذية التي طُرحت، وفرغت العدد القليل من القوانين الاصلاحية التي أقرتها من مضمونها ولعل تطيير البطاقة التمويلية هو خير دليل على ذلك”.
المشكلة بدأت مع الدعم
إنعدام قدرة أكثر من ثلثي المجتمع على العيش من دون مساعدات إجتماعية هو المشكلة الاخطر. وسواء ارتهن المواطنون بالمفرق للسياسيين، أو بالجملة للدولة من أجل “التنفّس” فقط، فان “الأمر يصبح بدون أهمية”، بالنسبة لـ الباحث في “المعهد اللبناني لدراسات السوق – LIMS” كارابيد فكراجيان. فـ”استغلال المال العام بهذا الشكل المفضوح الذي يؤخذ من فئة ليعطى الى أخرى، أو حتى يؤخذ من الفئة الفقيرة نفسها بيد، ليعطيها باليد الثانية غير جائز. وفي جميع الحالات فان الحاجة إلى الدعم المباشر عبر البطاقات التمويلية لم تكن لتولد برأيه، “لولا البدء بسياسة دعم السلع الخاطئة التي كلفت الاقتصاد أكثر من 18 مليار دولار من العملات الصعبة. وهي الاجراءات التي هدفت بالشكل لمساعدة الفقراء، فيما صبت في خدمة مصالح كبار المستوردين والمخزنين والمهربين في المضمون. وخسّرت المودعين أموالهم، وزادت إفقار المواطنين”.
الدولار الجمركي يمتصّ المساعدات
على الرغم من سوداوية المشهد العام، إلا أن “الأمل بالانقاذ، وتخليص المواطنين من “يمّ” الفقر والعوز، ما زال ممكناً”، من وجهة نظر فكراجيان. وهو لا يتطلب إلاّ “النية” (الارادة السياسية)، وإقرار الاجراءات التقنية المتعلقة بتصحيح السياسة النقدية، تحرير السوق من الاحتكارات، ولا سيما منها التابعة للدولة، واتباع سياسات ضريبية تحفيزية… وذلك على سبيل الذكر لا الحصر”. إلا أنه بدلاً من ذلك، يجري العكس تماماً. حيث أن المساعدات الاجتماعية التي تعطيها الدولة ستتناقص بشكل كبير مع اعتزامها رفع الدولار الجمركي إلى 20 الف ليرة أو حتى أكثر. وبرأي فكراجيان فان الحل لهذه المعضلة يكون بـ”إلغاء جميع الرسوم الجمركية وليس زيادتها. لان ذلك لا يؤمن توفير كميات كبيرة من دخل المواطنين تساوي الزيادات المُطالب بها فحسب، إنما يحفز الاقتصاد ويحد من الظلم الذي تتعرض له القطاعات الانتاجية والخدماتية والتجارية الشرعية التي تصرح عن وارداتها وأرباحها”.
بالاضافة إلى الاصلاحات الاقتصادية الجذرية فان المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى وضع سياسات اجتماعية شاملة وعادلة، تسمح للمواطنين النأي بأنفسهم عن الاصطفافات والتبعيات الطائفية.