يتقلّب ملف الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل وسط مدٍّ وجزْر حيال الخطوط النهائية لاتفاقٍ تجرجر خيوطُه منذ أكثر من عقدٍ وبات يختزن في حصوله أو عدمه تعقيداتٍ تقنية وديبلوماسية وسياسية تطلّ على الوقائع الداخلية وموازينها ذات الامتداد الخارجي كما الواقع الإقليمي وتموّجاته.
وفي الأسابيع الأخيرة، بدا أن هذا الملف دخل مرحلة من الضبابية، في ظلّ تبادُل ترسيم حدود التراجعات ومعادلات الردع، برسائل حربية مباشرة كما فعل «حزب الله» أو غير مباشرة كما حاولتْ اسرائيل عبر تحويل غزة «صندوقة بريد بالنار» لمَن يعنيهم الأمر، فيما توالتْ الإشارات المتناقضة، حول إيجابيات وسلبيات، تفاؤل وتشاؤم أو تشاؤل، على تخوم جوابٍ نهائي اسرائيلي يُنتظر أن يتبلّغه الوسيط الأميركي آموس هوكستين على طريقة نعم أو لا أو «لعم» في شكلٍ عرض جديد يعيد الكرةَ إلى الملعب اللبناني.
ولا يمكن مقاربة قضية الترسيم من دون تقليب «أول الحكاية» التي بدأت مع تقسيم بيروت – حين انطلاق ملف التنقيب عن النفط – البحرَ اللبناني في المتوسط إلى 10 بلوكات نفطية. وقد عرضت وزارة الطاقة البلوكات 1 و2 و3 و5 و6 و7 و8 و10 للمزايدة في دورة التراخيص الثانية في المياه البحريّة.
وحددت 15 أيلول 2022 الموعد النهائي لتقديم طلبات الاشتراك في الدورة من قبل شركات النفط والغاز. علماً أن البلوكين 4 و9 قد تم تلزيمهما بفعل دورة التراخيص الأولى.
من بين البلوكات العشرة، فإن «البلوك 9» ومن ثم «البلوك 8» هما اللذان يحظيان بأهمية نظراً إلى وجودهما في منطقة حدودية متنازَع عليها مع إسرائيل، وهما اللذان أصبحا نجميْ التعامل الدولي والمفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة.
في مرحلة سابقة، كان الكلام عن «البلوك 9» هو الذي يستأثر بالاهتمام بعدما تولّت شركة «توتال» الفرنسية مهمة استكشافه، وقد علّقت عملها بعد انتشار كورونا ليعاود مجلس الوزراء في نيسان الفائت تمديد المهلة لها ثلاث سنوات في البلوك المذكور على أن تنتهي في 21 أيار 2025.
واستمرت الضبابية تحوط بموضوع التنقيب وعمل «توتال» نظراً إلى المخاض الصعب الذي يرافق قضية ترسيم الحدود، والتهديدات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله.
ولم يعد الحديث يتركز على البلوك 9 في شكل إجمالي إلا في ما يتعلق بحقل قانا الذي هو اليوم أحد مفاتيح الحلول المقترحة، وذلك نظراً إلى انشغال لبنان وإسرائيل بالبلوك 8، وحجم الغاز فيه، إضافة إلى أن ملف الترسيم والتهديدات اتخذ بُعداً سياسياً يتعلق بمستوى الأخطار المحتملة الناجمة عن التصعيد المتبادل. في الأسابيع الأخيرة، عاد الكلام عن مكامن نفطية كبيرة في البلوكين 8 و9، رغم أن لا عمليات مسح تقنية لبنانية شاملة.
وتزامنت معاودة تسليط الضوء على هذه المكامن، مع الخشية من أن تكون إسرائيل تحاول مجدداً التمسك بهما، بعد مرحلةٍ سابقة طالبت فيها بـ «البلوك 9» لكنها جُبهت برفضٍ لبناني تام، علماً أن «توتال» تحرص دائماً على التذكير بأن منطقة عملها بعيدة عن خط النزاع وساحة التوتر. ومع ذلك فهي علّقت عملها وما زالت لأسباب تتعدى الظروف التي فرضها «كورونا» في مرحلة سابقة.
وتزامناً مع جولة الوسيط الأميركي الأخيرة قبل نحو أسبوعين، جرى الكلام على مستويات رسمية لبنانية عن جو إيجابي أكثر فاعلية من أي وقت سابق. ورغم أن لهجة الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله كانت عاليةً وتصاعدتْ منذ إطلاق مسيَّرات فوق حقل كاريش الإسرائيلي أوائل تموز الماضي، مالت الانطباعات اللبنانية نحو تأكيد إيجابياتٍ دولية وأميركية حول الترسيم وقبول إسرائيل بإعطاء حقل قانا كاملاً للبنان أي مع امتداده جنوب الخط 23.
علماً أن هناك في بيروت مَن يعتبر هذا الحقل ليس على مستوى التطلّعات لوحده من دون المكامن الأخرى، ولا سيما الحقل الأوسع، حقل قانا الغربي الموجود في «البلوك 8».
لم يُبْنَ الرهان اللبناني على وقائع عملانية تتعلق بضمانات أميركية أعطيت في صورة جازمة، بل على مجموعة عوامل منها أولاً اعتبار ان إسرائيل التي تعيش أزمات داخلية، ليست في وارد الدخول في مغامرة عسكرية مع حزب الله خصوصاً بعد التهديدات التي أطلقها.
ثانياً، ان فرنسا التي أطلقت رسائل إيجابية حول بدئها عملية التنقيب، ليست في وارد تعريض شركتها للأخطار، تماماً كما أثينا التي عادت وانكشفت الملكية اليونانية لسفينة الإنتاج «انرجين باور» التي تعمل في كاريش.
وثالثاً ان لبنان بنى استنتاجاته على عامل الوقت الذي يضغط أوروبياً على إسرائيل لتزويدها بالغاز بعد انعكاسات حرب أوكرانيا وصراع النفوذ الأوروبي مع روسيا.
وهذا الأمر جعل لبنان يعتقد ان كل الإطار النفطي في المتوسط من مصر إلى اليونان وقبرص واوروبا لن يسمح بتوتر عسكري يطيح بمشروع نقل الغاز. على هذه المعطيات بُنيتْ الكثيرُ من الإيجابيات في الأسبوع الماضي، بعدما سبق كلامٌ لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون تحدّث فيه عن اتفاق وشيك ولمصلحة لبنان.
لكن بعد جولة هوكستين، انعكست الأجواء وظهرت مَعالم حذر متفاوتة من إمكان دخول الملف مجدداً في عنق الزجاجة لاعتبارات عدة.
فإسرائيل تدخل في مرحلة التحضير للانتخابات المبكرة، وليس من مصلحة أي طرف اليوم كحكومتها الحالية الدخول في اتفاق مع لبنان، بدأ الكلام في تل أبيب عن انه لا يصب في مصلحتها، وان الاتفاق يجب ألا يتعلق فقط بحقل قانا مع تلويحٍ بإمكان إخضاع أي «تنازُل بحري» للبنان لاستفتاء عام. علماً ان اسرائيل سبق ان أشاعت الأجواء الإيجابية نفسها في شباط الماضي حين تحدثت عن اتفاق وشيك مع بيروت.
وبعد أجواء تواترت عن اتجاه اسرائيلي لتأجيل التفاوض الحاسم إلى ما بعد انتخابات الكنيست، ساد جو سلبي وجرى تعميم أجواء من جانب «حزب الله» بأن إنذار الحزب لا يتعلق فقط بالترسيم أو بحقل قانا بل بمنع إسرائيل من استخراج الغاز في أي حقل، وبداية من كاريش، وأن «مهلة الإسقاط» ما زالت محدَّدة في سبتمبر المقبل، ما دام لبنان لم يستخرج غازه والاتفاق لم يُنجز.
على هذه المعادلة، يمكن التساؤل حول مَن استدرج مَن إلى الصِدام المتوقَّع: إسرائيل بايحائها بقبول موقف لبنان من الخط 23 + وقانا كاملاً، أم حزب الله الذي وسّع بيكار المعادلة لِما بعد الترسيم المتعلق بالخط ورَسَمَ خطَّ ردعٍ جديداً يتعلق بمنع استخراج إسرائيل للغاز من أي حقل. رغم أن هذا الأمر من شأنه أن يلاقي ردات فعل دولية كما من الشركات العالمية لأن اسرائيل تنقب في حقول غير متنازَع عليها مع لبنان.
وفي انتظار الجواب النهائي من الموفد الأميركي، فإن المهل باتت ضيقة فيما يرشح عن أجواء حزب الله تأكيد على جدية المواجهة المحتملة إذا لم تقرر إسرائيل التفاوض لتسوية تتعلق بالخط 23 وقانا في الأيام المقبلة وبالإفراج عن التنقيب والاستخراج من الحقول اللبنانية.
الرأي الكويتية