كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
طوّر سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار مقاومة تجاه كل “المضادات الحيوية” غير الفعّالة التي “حُقنت” في شرايين السياسة النقدية. الإجراءات الخاطئة التي اتّخذت للسيطرة على انهيار العملة الوطنية أدت إلى ظهور طفرات، لم يعد ينفع معها أي دواء تقليدي في جعبة “المركزي”. فهدوء الليرة أحياناً، وتحسّنها بالتوازي مع ضخّ جرعات مفرطة من الدولار، لم يكونا إلا تحضيراً لانتشار “فيروس” انهيار سعر الصرف، على مستوى أوسع.
على الرغم من استنفاد مصرف لبنان في النصف الأول من العام الحالي نحو 2.3 مليار دولار لدعم العملة الوطنية، فإن متوسط سعر صرف الليرة مقابل الدولار لم يتدنَ عن 29 ألف ليرة. فقد سجل سعر الصرف أعلى مستوى له في شهر شباط عند حدود 20600 ليرة، ثم عاد ووصل إلى 37 ألف ليرة في 27 أيار. ولم يتراجع مجدداً إلى حدود 29 ألفاً إلّا مع ضخّ مصرف لبنان 196 مليون دولار في يوم واحد على منصة صيرفة. ومع توقف مصرف لبنان عن التدخل بكميات وازنة من الدولارات على منصة صيرفة، من بعد الانتخابات النيابية عاد سعر الصرف ليتدهور أكثر قافزاً فوق حدّ31 ألف ليرة، ومؤشراً إلى المزيد من الإنخفاضات.
توقّعات IIF حول مستقبل سعر الصرف
السيطرة على سعر الصرف في هذه الظروف تتطلب كميات هائلة من الدولارات يستحيل تأمينها مهما كثرت الهندسات. فمصادر الحصول على النقد الصعب محدودة جداً، وإذا ما استثنينا الثقل الأساسي الذي تمثله الكمية المتبقية من التوظيفات الإلزامية الممنوع المسّ بها (نظرياً)، فلا عمليات صرف ما يقارب 10 في المئة من التحويلات النقدية عبر شركات تحويل الأموال، ولا أموال السيّاح، ولا أرباح بقية المرافق من طيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان ستكفي للتدخل. وعليه “سيستمر سعر الصرف في السوق السوداء في انخفاضه إلى أكثر من 40 ألف ليرة لبنانية في نهاية عام 2022، وسيصل إلى 110 آلاف ليرة في نهاية 2026″، بحسب السيناريو المتشائم لمعهد التمويل الدولي IIF، وهو أحد السيناريوين اللذين وضعهما المعهد في تقرير: “لبنان: تصاعد التحديات”.
في السيناريو المتشائم، الذي يفترض أن البرلمان سيستمر في عرقلة الإصلاحات الحاسمة وتأخير إقرار القوانين المتعلقة بالإجراءات السابقة، لن يكون هناك إتفاق مع صندوق النقد الدولي، كما لن يكون هناك دعم مالي من المجتمع الدولي. وفي غياب المساعدة المالية من صندوق النقد، والبنك الدولي ومصادر رسمية أخرى، ستنخفض الاحتياطيات الرسمية المتاحة إلى أقل من مليار دولار في حلول عام 2026، ما يعني أن مصرف لبنان سيضطر إلى استخدام معظم المتطلبات الإلزامية، التي تعود للبنوك التجارية”.
المشكلة في الاقتصاد النقدي
“أي بحث في واقع ومستقبل سعر صرف الليرة مقابل الدولار، من دون أن يكون هناك وضوح كامل في ما يتعلق بميزان المدفوعات هو محض تنظير”، بحسب عضو مجلس إدارة جمعية الصناعيين بول أبي نصر. “فالتقديرات التي تعطى محلياً ودولياً تفتقر بمعظمها إلى المعلومات الدقيقة، نتيجة توسع الاقتصاد النقدي CASH ECONOMY. حيث يصبح من شبه المستحيل احتساب حجم العرض والطلب على الدولار والنسبة المستعملة من حجم الأخير، أي التي تعود وتدخل في الدورة الاقتصادية، بالمقارنة مع تلك التي تخزّن”.
المركزي يحجم عن التدخل
أمام هذه الضبابية يبقى الأكيد أن عدم تراجع سعر صرف الدولار وثباته عند حدود 29500 ليرة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة يعودان إلى إحجام مصرف لبنان عن ضخ الدولارات على صيرفة بالنسبة الكافية. فـ”المركزي ترك خلال هذه الفترة مهمة عرض الدولار للسياح والمغتربين الذين بدأوا يتدفقون على لبنان منذ مطلع حزيران”، برأي أبي نصر. و”هذا التراجع في تدخل المركزي حال دون انخفاض الدولار كما كان متوقعاً قبل بداية موسم الصيف والسياحة”. خصوصاً أن معدل عرض الدولار قد يكون تراوح بين 1.5 و2 مليار دولار، إذا افترضنا أن عدد السيّاح والمغتربين تراوح بين 1 و1.5 مليون بمعدل إنفاق يتراوح بين 1000 و1500 دولار للفرد الواحد.
مصير سعر الصرف
إنطلاقاً مما تقدم يبدو من الواضح أن مصير سعر صرف الليرة أمام الدولار مرتبط في القادم من الأيام بعاملين أساسيين:
الأول، قدرة مصرف لبنان، بعد خروج السيّاح والمغتربين، على استمرار التدخل على منصة صيرفة بكميات وازنة تعوّض الطلب، وكلفة هذا التدخل.
الثاني والأهم، يتمثل بالقدرة على ضبط العمليات النقدية وتحديد حجم ميزان المدفوعات بشكل قاطع ودقيق.
عرضة للتقلبات
وللوصول إلى الشرط الثاني يجب “تنفيذ مجموعة من الخطوات الأساسية التي تعيد الثقة بالنظام المصرفي، وتحدّ بشكل كبير من العمليات النقدية”، من وجهة نظر أبي نصر، ومنها:
– إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
– تحديد جميع التدفقات النقدية الداخلة والخارجة من البلد.
– فتح منصة صيرفة أمام جميع المتداولين، على أن تصبح المنصة الوحيدة لعمليات الصرافة بشفافية مطلقة. فيتحدّد السعر العادل للصرف تلقائياً، ويتظهّر حجم التداول الحقيقي. ويحدّد حجم العمليات النقدية.
من دون خطوات جدية وفعّالة سيبقى سعر الصرف عرضة للتقلبات الكبيرة. ولا شيء سيمنع الليرة من استمرار التهاوي أمام الدولار. الأمر الذي يعمّق الأزمة في القادم من الأيام، ويفاقم المعاناة ويسرّع الانهيار فقط لمصلحة المضاربين وبعض المستفيدين. فإذا استثنينا عاملي الثقة والمضاربة، فإن الضغط على سعر الليرة اليوم غير مبرر من الناحية الاقتصادية. فالعجز في الميزان التجاري المقدر اليوم بحوالى 9 مليارات دولار يمكن تغطيته بسهولة من عوائد الصادرات التي تفوق 3 مليارات دولار وتحويلات المغتربين المقدرة بـ 6.7 مليارات دولار وبقية التحويلات غير المنظورة”، من وجهة نظر أبي نصر. وفي المبدأ فإن الميزان التجاري يمثل الطلب الأساسي والكبير على الدولار. وهذا يعني أن الطلب الهائل على الدولار جرّاء انفلاش طباعة الليرات، إما يهرّب إلى الخارج وإما يخزّن في البيوت. ولا أمل في تحقيق الاستقرار في سعر الصرف إلا مع توقف هذه الظواهر، وعودة الأموال المخزّنة إلى الدورة الاقتصادية أو المصارف التجارية. وهذا ما يتطلب في النهاية إصلاحات جذرية.
كما تقود كل الطرق إلى روما، تقود شروط تخفيض سعر الصرف إلى ضرورة تحقيق الإصلاحات الجذرية. فمن دون هذه الإصلاحات ستبقى الليرة رهينة الإجراءات النقدية الترقيعية. الأمر الذي من شأنه تعميق الأزمة وزيادة انهيار القدرة الشرائية للعملة الوطنية.