لا يحتاج قطاع الاتّصالات إلى دليل على الفساد المعشّش فيه. لكن مع ذلك، فإن الأدلة لا تنفك تظهر وتتوالى، ومن مؤسسات وهيئات رقابية لا يُفترض أن تمرّ تقاريرها من دون أن يتحرك القضاء أو الحكومة لوضع حدّ للهدر الذي يحرم الدولة من مداخيل ضخمة أو محاسبة من تسبّب بهذا الهدر.
هذه المرة صدر الدليل على الفساد في قطاع الاتصالات عن ديوان المحاسبة، ليس من خلال قرارات تطال ملفات مُحدّدة، بل من خلال تقرير خاص حول القطاع بمجمله، أعدّته الغرفة الرابعة برئاسة القاضية نيللي أبي يونس وعضوية المستشارتين نجوى الخوري ورانية اللقيس. صحيح أن أغلب المعلومات سبق أن كُشفت في أوقات سابقة، لاسيما في لجنة الاتصالات النيابية وفي الديوان نفسه أو في التفتيش المركزي أو في هيئة الاستشارات والتشريع إلا أن التقرير يُشكّل أشمل دليل إدانة للقيّمين على قطاع لطالما وُصف بأنه نفط لبنان، ليتبيّن أنه شكّل بئر نفط لكثير من المسؤولين والنافذين المرضي عنهم سياسياً.
عقود الرعاية قد تبدو الأكثر شهرة إعلامياً، لما تتضمنه من توزيع سياسي للمصاريف والأموال على المكشوف. لكن الهدر يكاد لا يستثني أيّ عقد نُفّذ في شركتيْ الخلوي أو في أوجيرو، إن كان استثمارياً أو تشغيلياً، من دون نسيان التوظيف العشوائي الذي لطالما شكّل إحدى أدوات الانتخابات. وقبل ذلك كله، لم يراعِ الصرف الأصول القانونية ولا احترم الموازنات المتعاقبة.
التقرير الذي جاء في 146 صفحة، تناول فيه الديوان أغلب أبواب الهدر والفساد والمخالفات القانونية، التي تعاقبتْ على القطاع منذ العام 2010 إلى العام 2020. وقد قُسِّم إلى ثلاثة أقسام: تنظيم قطاع الاتصالات، الوضع المالي للقطاع، وأخيراً التجاوزات والنتائج والتوصيات. وطال البحث الهيئة المنظمة للاتصالات وهيئة أوجيرو وقطاع الخلوي.
نظراً لأهمية التقرير وكم المعلومات الذي يتضمنه، سنتاوله على حلقتين. في الأولى ستتم الإضاءة على أبرز ما يتعلق بقطاع الخلوي على أن نتناول في الثانية الهيئة المنظمة للاتصالات وهيئة أوجيرو.
مزارب الهدر في الخليوي
أسهب التقرير في عرض مزاريب الهدر في قطاع الخلوي، وقدّم عرضاً موجزاً لأبرز المحطات التاريخية التي مرّ بها القطاع منذ العام 1994 وصولاً إلى اليوم. لكن اللافت أن التقرير يشير إلى أن القطاع حقّق ما بين 2010 و2020 إيرادات قارب 17 مليار دولار. وساهم في رفد الخزينة العامة بنحو 11 مليار دولار. الرقم الضخم أدى إلى أن تُشكل الاتصالات أحد أكبر مصادر إيرادات الدولة على مدى سنوات طويلة. لكن الرقم نفسه يعني أيضاً أن تشغيل الشبكة التي تضم 4 ملايين مشترك، كلّف خلال هذه المدة 6 مليارات دولار. وهذا رقم ضخم بكل المقاييس، إذ لا يعقل أن يكلف تشغيل الشبكة 32٪ من العائدات، بالرغم من أن الشركتين لا تدفعان التكاليف التي عادة ما تدفعها شركات الاتصالات، مثل رسوم الترخيص والرسوم التي تعود إلى الهيئة المنظمة للاتصالات. علماً أنه لو وجدت هذه التكاليف، ولو كان أسعار الخلوي تسعّر أسوة بالدول المحيطة، بدلاً من تحولها إلى ضريبة مخفية، لكان القطاع تعرض لخسائر مؤكدة.
من مبلغ ال6 مليار دولار، كلّفت المصاريف الاستثمارية الدولة 1.4 مليار دولار، منها 650 مليون دولار كلفة تطوير الشبكات التقنية فقط. لتكون نسبة مشاريع الشبكات 39% من مجموع الإنفاق الاستثماري المضخّم أصلاً.
الأمثلة التالية تبيّن الخفّة في التعامل مع المال العام، وكيفية تضخيم الإنفاق لأسباب مشبوهة، لكن لم يتم التدقيق بها:
_مشروع تطوير شركة “تاتش” (ميك2) لمشروع الجيل الثاني:
سنة 2012، في عهد الوزير نقولا صحناوي، قامت الشركة بالتعاقد مع شركة ZTE لاستبدال شبكة Motorola القديمة على كامل الأراضي اللبنانية بكلفة 27.9 مليون دولار. وخلال العام نفسه، قامت الشركة بإضافة أشغال وتوسيع وتحديث الشبكة لتصبح الكلفة الإجمالية للمشروع 72 مليون دولار.
وبعد 6 سنوات فقط من بداية المشروع، أي في عهد الوزير جمال الجراح، فكّكت الشركة كامل شبكة ZTE واستبدلتها بشبكة من Huawei بكلفة تفوق 90 مليون دولار. علماً أن شركة Huawei كانت قد حصلت على مبلغ 1.7 مليون دولار من أجل السماح لشركة ZTE بالتوافق التقني مع شبكتها.
_مشروع الجيل الثاني في “ألفا” (ميك1): كلفة زيادة عدد المشتركين ب 400 ألف مشترك تجاوزت 37 مليون دولار بين عامي 2009 و2010.
_مشروع الجيل الثالث في “تاتش”: بدأ عام 2011 بكلفة 25.6 مليون دولار لمليون مشترك وانتهى في العام 2012 بكلفة 128.3 مليون دولار ل1.5 مليون مشترك.
_مشروع الجيل الثالث في “ألفا”: بدأ بكلفة 41.6 مليون دولار وانتهى بكلفة 170.2 مليون دولار بين عامي 2011 و2012.
_مشروع الجيل الرابع في “تاتش”: كلفته تفوق 100 مليون دولار، الحصة الأكبر منه من نصيب الشركة المحظية Huawei، التي كانت تتقاضى في بعض المشاريع 50% من قيمة الالتزام في نفس سنة التلزيم.
_مشروع الجيل الرابع في “ألفا”: في العام 2013 تم تجريب ال 4G ب 15.5 مليون دولار وصرفت على مشروع التوسعة في العام 2018، 91.5 مليون دولار. علمًا أنها كانت اشترت 500 محطة إرسال جديدة سنة 2017 بقيمة 73.4 مليون دولار ولم تقم بتركيبها والآن تبحث عن بيع هذه المحطات. وبذلك تكون كلفة ال 4G / LTE بلغت 180 مليون دولار.
انتقال شكلي لإدارة الخلوي
بتاريخ 5/5/2020، قرر مجلس الوزراء نقل إدارة الشركتين إلى إدارة وزارة الاتصالات. وبالرغم من مرور خمسة أشهر لتطبيق القرار، إلا أنه لم يُطبّق حسب الأصول إنما أبقى الوضع على حاله (مجالس الإدارة مكوّنة من أعضاء سابقين و/أو موظفين من الشركتين يتم اختيارهم عبر التحاصص). كما لم يلحظ أي نظام حوكمة جديدة يتماشى مع قرار استرداد الإدارة (ليس هناك هيئة إشراف كما لا يوجد رقابة على أعمال الشركات) فتمّ حصر الصلاحيات بشخص الوزير.
وردتْ في التقرير إشارة إلى أنه “فيما كان من المفترض أن يؤدي هذا التدبير إلى خفض في الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي، انطلاقاً من وجوب حرص الوزارة على عدم هدر المال العام المتأتي من هذا المرفق الحيوي، غير أنه تبيّن أن الإيرادات كانت في تناقص والنفقات في ارتفاع ولم يكن هناك أي خطة لخفض الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي الذي اعتُبر باهظاً جداً مقارنة بمساحة لبنان وعدد المشتركين وقرب المسافة بين المحطات”. وكان لافتاً، بحسب الدراسات التي قدمتها الشركتان إلى لجنة الاتصالات النيابية أنه بالرغم من ارتفاع عدد المشتركين من 3 إلى 4 مليون مشترك، إلا أن النفقات التشغيلية والرأسمالية ارتفعت بين 2010 و2018 بنسبة 128%، مع العلم أن متوسّط الدخل من المشتركين (ARPU) بلغ 29 دولاراً وهو ما يعدّ من أعلى الأسعار عالمياً، ويتجاوز الأسعار في الدول المشابهة بأكثر من ثلاثة أضعاف، باعتباره “لم يكن يُغطي بدل الخدمة بل أيضاً الإنفاق المتمادي غير المستند إلى خطط وبرامج محددة تحفظ المصلحة العامة والمال العام من الهدر”، على ما جاء في تقرير الديوان.
وبحسب الأرقام المقدّمة من الشركتين، يتبين أن المصاريف الاستثمارية من 2010 إلى 2020، بلغت في “ألفا” 952 مليون دولار، وفي “تاتش” 690 مليون دولار. في المقابل، بلغت المصاريف التشغيلية في “ألفا” مليار و167 مليون دولار، مقابل مليار و215 مليون دولار في “تاتش”.
توظيف زبائني
تجدر الإشارة إلى أن نقل المصاريف التشغيلية، ومن بينها رواتب الموظفين، من الشركتين إلى الوزارة ساهم في تحويل الشركتين إلى مركز للتوظيف السياسي. فلم تعد الشركة توظف من تحتاج إليه، عندما كانت تدفع هي المصاريف التشغيلية. بل صارت الوزارة تقرر التوظيف والشركتان توافقان. ولذلك، يتبين أن عدد الموظفين في “ألفا” ارتفع بين العامين 2010 و2018 من 714 موظفاً إلى 1102 موظف، أي بنسبة زيادة بلغت 54% (عاد العدد وانخفض في العام 2020 إلى 1052 موظفاً نتيجة الاستقالات الحاصلة بين الموظفين وأكثرهم من أصحاب الاختصاص). أما في “تاتش”، فارتفع العدد من 434 عاملاً إلى 749 في العام 2018، أي بنسبة 72.6% (انخفض العدد في العام 2020 إلى 720 موظفاً).
ويبدو جلياً من الجداول المسلّمة للديوان أن العامين 2012 و2013 شهدا أعلى نسبة زيادة، وهما السنتين اللتين تلتا تغيير طبيعة العقد، ونقل المصاريف التشغيلية إلى عاتق الوزارة. وبطبيعة الحال، فقد انعكست هذه الزيادة زيادةً في كلفة الرواتب، حيث شكّلت الزيادة بين العامين 2010 و2018 في شركة “ألفا” 149% (من 21 مليون دولار سنوياً إلى 54 مليون دولار). وورد في الوثائق المقدّمة من الشركة أنه “نتيجة بعض القرارات وطلبات الوزارة ارتفعت الكلفة الإجمالية للموظفين بنسبة 134% (7 مليون دولار) خلال العام 2014”.
مجلس الإشراف: “كنز” الوزير
من جهة أخرى، ووفقاً لعقد الإدارة أنشئ في الوزارة “مجلس إشراف المالك” أو ما يعرف بهيئة مالكي القطاع، تولّى مسؤولية إدارة العلاقة بين الوزارة والشركتين، والإشراف على قطاع الخلوي من النواحي القانونية والتجارية والمالية. لكن من خلال التجربة، تبيّن أن هذا المجلس كان مسلوب الصلاحيات، حيث يعود القرار دائماً للوزير الذي له أن يأخذ برأي المجلس أو يعلمه. وفي أحيان كثيرة كان الوزير يأخذ القرار في الأمور الخاضعة لرقابة الهيئة من دون أن يعرضها عليه.
وبالرغم من طلب الديوان لقرارات تعيين “مجلس إشراف المالك” وفرق العمل المعاونة له مع الرواتب التي تقاضاها كل شخص، إلا أن الوزارة اكتفت بإرسال جداول الرواتب التي تعود إلى الفترة الزمنية ما بين 2017 وتشرين الأول 2020. وقد أكّدت أن هذه الجداول هي “كل ما وجد لديها من جداول تعود إلى الهيئة المذكورة”. كما أفادت الوزارة أنه لا يوجد لديها قاعدة بيانات رسمية تتعلق بالمجلس منذ إنشائه، “خلافاً للأصول والقواعد القانونية التي تلزم الإدارة الاحتفاظ بالمستندات العائدة لنشاطها لفترة زمنية محددة ولا يمكن إتلافها أو التخلّص منها إلا وفقاً لأصول حددها المشرّع بالتفصيل” بحسب الديوان.
بالنتيجة، تبيّن أن الارتفاع الكبير من سنة إلى أخرى في عدد أفراد المجلس وفرق العمل التي تعاونه في تأدية مهامه،. إذ تراوح العدد بين 25 و30 شخصاً، يضاف إليهم نحو ثلاثين شخصاً وصفوا بأنهم فريق الوزير. وهي زيادة اعتبرها الديوان غير مبررة في غالب الأحيان وغير منطقية أحياناً دون اعتماد أي معيار واضح وشفّاف (مثلاً تكليف ثلاثة مساعدين إداريين وأحياناً أربعة وتكليف إثنين إلى أربعة أشخاص لأعمال “المطبخ” وخلق وظائف واعتماد مهام لها في فترة ما ثم التخلي عنها في فترة أخرى مثل وظيفة السكرتير التنفيذي لمجلس إشراف المالك والتي لم تعد تظهر في الجداول بعد جدول كانون الثاني 2017 (هو فعلياً مستشار للوزير). كما اعتمد الوزير المجلس وسيلة لتوظيف غير مباشر في مكتبه، فتضمّنت جداول المجلس عاملين في مكتب الشكاوى التابع للوزير أو تضمن المجلس وظيفة “الأرقام المميزة” والتي يقوم بها شخصان تابعان للوزير. علماً أن أسماء أخرى لم يكن يُشار إلى وظائف أصحابها، قبل أن يتبين لاحقاً أنهم عاملون لصالح مكتب الوزير.
طائرات خاصة
أما رواتب أعضاء مجلس الإشراف، فقد شهدت تفاوتاً كبيراً ارتبط دائماً بقرار الوزير. ولذلك، كان لافتاً تقاضي العاملين ضمن فريق الوزير رواتب أعلى من رواتب معظم أعضاء مجلس الإشراف، بالرغم من أن هؤلاء لم تُحدّد مهامهم. وبحسب إفادة مسؤول في المجلس فإن فريق الوزير ضمّ مستشارين وسكرتيرات. وغير ذلك يضع الوزير أسماءهم ويحدد رواتبهم ويقبضون من حساب المجلس لكن لا تربطهم به أي صلة عملية. يذكر أن عقد الإدارة الموقع مع مشغّلي الهاتف الخلوي ينص على أن تمول الشركات نشاطات مجلس إشراف المالكين بقيمة تقتطع شهرياً من الإيرادات المحصلة لا تتجاوز 0.1% من هذه الإيرادات، تُصرف وتنفق وفقا لتعليمات الوزير. وهؤلاء تصرّفوا بتلك الأموال دون حسيب أو رقيب ودون اعتماد أي أسس ومعايير واضحة لجهة ما يمكن أن يكون قد صُرف من أصل هذه المبالغ على مرّ السنين. كما استعمل الوزراء هذه الأموال لتغطية نفقات السفر والإقامة في الفندق للوزير والفريق المرافق له، وحتى استئجار طائرة خاصة لسفر الوزير ومصاريف متفرقة لمكتب الوزير من ورق وحبر وطعام وآلة لمنع التنصّت وغيره وجميعها على حساب مجلس إشراف المالك، في الوقت الذي نص العقد على أن تغطي الإيرادات نشاطات المجلس فقط.
اللافت أيضاً أن الأموال التي كان يُطالب بها الوزراء الشركتين لتغطية نشاطات المجلس تفوق المبلغ المسموح به وفق العقد. وقد سجّلت الأعوام من 2013 وحتى 2019 فوارق كبيرة، لتكون النتيجة دفع شركة “ألفا” 6.378 مليون دولار من 2012 وحتى آب 2020، ودفع “تاتش” 8.356 مليون دولار عن الفترة نفسها. وبالنتيجة، خلص الديوان إلى أنّ “ما بين العامين 2012 و2020 دُفعت مبالغ بقيمة 14 مليون دولار لتغطية مصاريف مجلس الإشراف ذهب معظمها هدراً من دون فائدة”.
تجدر الإشارة إلى أنّ الدفع من قبل الشركات كان يتمّ وفق الآليّة التالية: يوجه الوزير شخصياً وليس عبر ممثله في مجلس الإشراف، كتاباً إلى الشركة يُحدد فيه المبلغ الإجمالي المطلوب دفعه فتقوم الشركة بالدفع. والأغرب أن الوزراء كانوا قبل العام 2017، يطلبون من الشركات تنظيم الشيكات لصالح أحد المحامين. ومنذ العام 2017، كان الوزراء يطلبون تحويل الأموال إلى حساب خاص مفتوح في بنك عودة باسم مجلس إشراف المالك على أن يحقّ تحريكه والدفع منه بموجب شيكات تحمل توقيع وزير الاتصالات ورئيس مجلس الإشراف. وبعد حلّ المجلس، أصبح تحريك الحساب من صلاحية وزير الاتصالات منفرداً. وعند استيضاح الوزارة عن الحساب، أفادت بأن الوزير الحالي لم يكن على علم بوجود الحساب وأنه يعمد إلى تحويل المتوفر فيه إلى خزينة الدولة.
صندوق دعم لشركات مجهولة
يبدو لافتاً في التقرير الإشارة إلى ما يسمى صندوق مشروع MIC Venture Holding الذي أنشئ في العام 2018 بنتيجة مبادرة من وزارة الاتصالات لدعم الشركات الناشئة من خلال صندوق استثماري للاتصالات يدعم الشركات الناشئة الناشطة في مجال التكنولوجيا والاتصالات. وقد ساهمت شركتا الخلوي في الشركة التي تُدير الصندوق مناصفة برأس المال البالغ 20 ألف دولار بداية، إضافة إلى الاستثمار بالمبالغ التي تُحدّدها الوزارة. وبالنتيجة، قدّمت “تاتش” 6.4 مليون دولار و”ألفا” مبلغ 3 مليون دولار للشركة، قبل أن يؤدي تردّي الأوضاع الراهنة إلى قرار الشركتيْن بموافقة وزارة الاتصالات وقف الاستثمار في صندوق الدعم. وأوضح الديوان أنه عدا عن أن هذا الأمر يشكل خروجاً عن الغرض الذي أنشئت من أجله شركتا الخلوي، تُثار معه العديد من التساؤلات حول الشركات التي استفادت من هذه المبادرة ومجال عملها والمبالغ التي حصلت عليها والنتائج التي حققتها.
لماذا “باورتيك”؟
أعاد التقرير الإضاءة على مسألة الصيانة في الشركتين. وأكد أن الصيانة يفترض أن تدخل في صلب المهام المطلوب تأمينها منهما، من خلال الاستعانة بالكادر البشري في القسم التقني لديهما، والذي يضم أعداداً كبيرة من المهندسين والفنيين. واعتبر الديوان أنّ اللجوء إلى عقود خارجية لتأمين الصيانة، وعلى الأغلب من دون اتّباع إجراءات تنافسية، كانت نتيجتها هدر الملايين من الأموال العامة. ورأى أن أدلّ مثال على ذلك هو التعاقد مع شركة “باورتيك”. فخلال العام 2018 عرضت الشركة على وزارة الاتصالات استبدال المعدات (مولدات ، بطاريات، أجهزة تبريد… ) لقاء أن تسلّمها صيانة هذه المعدات (غيار زيت، تأمين محروقات…) لمدة عشر سنوات لقاء مبلغ سنوي يقدر ب 16مليون دولار عن كل شركة.
وبتاريخ 16 نيسان 2018، وجّه وزير الاتصالات كتاباً إلى “ميك 2” يفيدها بموجبه أن “ميك 1” وقّعت عقداً مع “باورتيك” بعرض يوفر 15% من كلفة الصيانة. علماً أن العقد مع “ألفا” كان بدأ ب13.8 مليون دولار وتصاعد إلى 15.7 مليون دولار في العام 2019 وإلى 19.6 مليون دولار في العام 2020 إلى أن بلغ في النصف الثاني من العام 2021 فقط 6.8 مليون دولار زائد 47.3 مليون دولار ثمن مازوت.
في 22/10/2018، تقدّمت “تاتش” من وزارة الاتصالات بتقرير عرضت فيه إمكانية تخصيص وحدة داخل “ميك2” لتقوم بكافة أعمال الصيانة الواردة في عرض “باورتيك”، إضافة إلى إمكانية خدمة شركات أخرى عبر بيع هذه الخبرات، وأفادت بموجب تقريرها بوجود اعتراضات من أربع شركات أخرى حول تلزيم الصيانة بالتراضي ومن دون دعوة أي شركة إلى استدراج عروض، مطالبة بإعادة النظر في العقد. لكن نتيجة إلحاح الوزير وافقت الشركة على التعاقد مع “باورتيك”، ووقّعت العقد في 13/2/2019، علماً أن فريق الصيانة الخاص بـ “تاتش” كان يغطي مناطق بيروت والشمال والبقاع وجزءاً من جبل لبنان، فيما كانت لزمت الصيانة في الجنوب إلى شركة “صيدون”، التي استبدلت لاحقاً “بباورتيك”.
تنافس وهمي
بالرغم من أن شركتيْ الخلوي مملوكتان من الدولة، ولا تنافس فعلياً بينهما على الحصة السوقية، خاصة بعدما صارت المصاريف التشغيلية على عاتق الوزارة في العام 2012، إلا أن ذلك لم يحل دون صرف أموال طائلة على التسويق والرعاية، فشكّلت الشركتان أفضل وسيلة لتعزيز الزبائنية، إذ كل وزير أو مسؤول في الشركة قادر على دعم أي جهة أو فرد من دون أي تدقيق أو محاسبة.
كانت ترصد ميزانية سنوية كبيرة للدعاية والرعاية بالاستناد إلى برنامج سنوي محدد مسبقاً، على أن تخضع هذه الموازنة لموافقة وزارة الاتصالات. لكن في أغلب الأحيان، كان الوزير يُقرر دفع مبالغ أخرى غير ملحوظة بالاستناد إلى اعتبارات خاصة استنسابية. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد المساهمات الرعائية في “تاتش” في الفترة ما بين 2016 و2019 ما يقارب 100 مساهمة بقيمة إجمالية بلغت 3.9 مليون دولار، بينما بلغ عدد المساهمات التي أطلقها الوزير بمبادرة منه 199 مساهمة بقيمة إجمالية بلغت 11.7 مليون دولار.
وقد بلغ إجمالي النفقات الرعائية المدفوعة من قبل ألفا خلال الأعوام من 2011 إلى 2021 حوالي 31 مليون دولار ومصاريف الدعاية والتسويق 28 مليون دولار والدعاية الاعلام 16 مليون دولار. كما لوحظ أن العام 2018 شهد أكبر معدل إنفاق على عقود الرعاية في الشركتين، ولذلك طلب الديوان جداول تفصيلية بالمبالغ التي تكبّدتها الشركتان في العامين 2018 و2019 والتي كان معظمها بطلب من الوزير (دفعت شركة “تاتش” 18 مليون دولار بدل رعاية وإعلان في العام 2018 من إجمالي 78 مليون دولار دفعتها بين 2010 و2018).
الإيجارات… هدر فوق هدر
شهد الإنفاق على بدلات الإيجار ازدياداً مطّرداً بين 2012 و2018 فبلغت القيمة الإجمالية لبدل إيجار المباني الرئيسية والمحطّات والمستودعات والمكاتب والمواقف لشركة “ألفا” خلال العام 2018 نحو 22.3 مليون دولار، ووصلت في “تاتش” إلى 21 مليون دولار. أما إجمالي الإيجارات المدفوعة من قبل شركة ألفا” خلال الأعوام من 2010 لغاية 2018 فبلغت نحو 168 مليون دولار، في حين بلغ إجمالي بدلات الإيجار المدفوعة من قبل شركة “تاتش” خلال الأعوام نفسها (من دون بدلات إيجار مبنى سوليدير) 141 مليون دولار.
ولم يتمّ التوصل إلى اعتماد آلية مشاركة لمواقع الاتّصال المستأجرة من قبل الشركتين، للحدّ من الإنفاق على بدلات الإيجار. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد مواقع الاتصال المنظم بشأنها عقود إيجار ما بين “ألفا” ومالكي المواقع لغاية العام 2021 ضمناً، 1283 موقعاً.
أما بالنسبة لشركة “تاتش”، فيفيد التقرير إلى أنه نجم عن عدم التخطيط وعدم إجراء دراسات لتحديد الحاجة أن تكبّدت الشركة مبالغ طائلة كبدلات إيجار مبنى قصابيان في منطقة الشياح وكقيمة فوائد لمبنى سوليدير القائم على العقار 1526/ الباشورة.
بالنسبة لمبنى قصابيان، فقد استأجرته الشركة في العام 2012 لعشر سنوات، بمبلغ إيجار سنوي يبلغ 2.2 مليون دولار على أن ترتفع قيمة بدل الإيجار بنسبة 6 ٪ سنوياً. وبعد أن كان الفريق الأول قد صرح بموجب العقد أنه عاين العقار واطلع على أوضاعه ووجده صالحاً لاحتمال الأثقال الإضافية على سطحه ووافق عليها دون تحفظ عاد وقرر إجراء أعمال إضافية تبين الحاجة إليها أثناء قيامه بدراسة أعمال هندسية داخلية. وجرى تنظيم اتفاقية مع المالك لتحسين المبنى بحيث يتحمّل الأخير بموجبها ملبغاً مقطوعاً قدره 700 ألف دولار من قيمة الأعمال. وبالنتيجة، تكبّدتْ الخزينة العامة مبالغ طائلة نتيجة العقد تخطت 7 مليون دولار ما بين العامين 2012 و2015، لكن النتيجة كانت هي توقف تنفيذ الأعمال بسبب نشوء نزاع مع المالك، فلم يتم الانتقال إلى المبنى أبداً.
أما مبنى تاتش في الباشورة فقد جرى استئجاره بقيمة 6.4 مليون دولار سنوياً كما تم توقيع عقد بقيمة 22.6 مليون دولار لتجهيزه. وبعد مرور عام تقرر شراء المبنى بقيمة 75 مليون دولار، لكن من خلال هندسات قانونية جرت بين أكثر من طرف وشركة، بما يخفي حقيقة وأسماء المستفيدين الفعليين. فبحسب الديوان إن كافة العقود لم تخضع للرقابة الإدارية المسبقة. كما أن كافة المبالغ التي دفعت سوف تتكبدها الخزينة العامة، وبالتالي فإن التفرّد في إلزام الدولة بها بمعزل عن أي رقابة تُذكر يشكل مخالفة صارخة للأحكام القانونية وهدراً للمال العام في ضوء اعتماد خيارات أخرى أقلّ كلفة في ظل الأزمة المالية الحالية. ويلحظ أن هذه الصفقة باتت محل دعوى جزائية ضد الوزيرين جمال الجراح ومحمد شقير أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت.
خلاصة وتوصيات
تقرير ديوان المحاسبة، الذي سلمه وفد منه برئاسة القاضي محمد بدران إلى رئيس الجمهورية أمس، على أن يسلم تباعاً إلى الرؤساء الثلاثة، خلص إلى عدد من التوصيات المتعلقة بالقطاع الذي لم يسلم يوماً من الهدر. وبالرغم من تطرقه إلى أغلب مزاريب هذا الهدر، إلا أنه أغفل التطرق إلى عدد منها مثل قطاع الخدمات المضافة “VAS” الذي شكّل عملية احتيال على المشتركين الذين كانوا يشتركون في الخدمات من دون علمهم، كما شكل عملية هدر للمال العام، بسبب العقود التي أعطت الدولة حصة بسيطة من الأرباح، بخلاف المتعارف عليه في هذه العقود.
لكن أهم ما غاب عن التقرير هو الأسماء، وخاصة أسماء الوزراء، المتهمين بمخالفة القانون والهدر، وإن كان يسهل توجيه أصابع الاتهام إلى هذا الوزير أو ذاك، بالنظر إلى تاريخ المخالفات. وبحسب التقرير يبدو جلياً أن فترة تولي الوزير نقولا صحناوي كانت أساسية في تعزيز الفوضى في الصرف، بعد قراره تحويل المصاريف التشغيلية إلى عاتق الدولة، فيما سجلت فترة الوزير جمال الجراح أعلى نسبة صرف وعقود مشكوك بشفافيتها.
وبالنتيجة أوصى الديوان بـ:
العمل بشكل فوري لوضع خطة استراتيجية لإدارة القطاع تأخذ بعين الاختيار زيادة إيرادات الدولة وتحسين جودة الخدمة وتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد، والابتكار والإسهام في تفعيل الاقتصاد المعرفي، ليصار بعد ذلك إلى البدء بتنفيذها ضمن خطوات محددة ببرنامج زمني محدد.
اعتماد مناقصات مفتوحة وشفافة وعلنية في جميع النفقات التشغيلية والرأسمالية وعرض المشروع على رقابة ديوان المحاسبة المسبقة وفقاً للأول.
خفض النفقات المضخّمة وغير الضرورية لتحقيق إيرادات إضافية للخزينة العامة من خلال كافة الوسائل الممكنة، على سبيل المثال لا الحصر: إلغاء المصاريف الرعائية والاحتفالات، ضبط وخفض نفقات إيجارات المواقع، استناداً للحاجة والضرورات التقنية، الاستعانة بالفريق الفني والتقني من المتخصصين لدى الإدارة لصيانة المحطات والمعدات وغيرها، وضبط وخفض كلفة الصيانة التي يجب أن يُعهد بها إلى أطراف محدّدة باعتماد المناقصات المفتوحة والشفّافة، خفض النفقات التي يمكن معالجتها تقنياً بمعزل عن أسعار سوق مثل اعتماد “رومينغ وطني” لحلّ مشكلة المحطّات المتوقّفة بسبب نقص المازوت، كونه يتيح لمشتركي أي شبكة استخدام الشبكة الثانية عند انطفاء المحطة الخاصة بالشبكة الأولى، فضلاً عن اعتماد نظام التشارك في المحطات الذي يُحقق الكلفة، تقاسم أو دمج البنية التحتية بين الشبكتين في سبيل تخفيض مستوى النفقات الرأسمالية والتشغيلية والاسعار بالنسبة للمشتركين.
ضبط وخفض مصاريف السيارات والمحروقات.
تنظيم عمل وكلاء التوزيع عبر اعتماد السياسية المقررة من خلال مزايدة أو مناقصة شفافة وعادلة واعتماد عمولة متقاربة بين الوكلاء.
وبناء عليه، قرر الديوان إحاطة مجلس النواب علماً بالمخالفات المرتكبة من قبل وزراء الاتصالات وإعلام النيابة العامة التمييزية والنيابة العامة لدى الديوان بالمخالفات المثارة ضمن التقرير والتي يقتضي في حال ثبوتها الادعاء بها أمام المحاكم المختصة. كما طلب الديوان من وزارة الاتصالات التقيد بكافة التوصيات الواردة في متن التقرير والعمل على معالجة أي خلل شاب العقود التي نُظّمت سابقاً مع شركات الخلوي وتداركه مستقبلاً. علماً أن كم المخالفات المكتشفة لا يفترض أن يمر من دون تدقيق جنائي يفضح المذنبين الذين أهدروا مليارات الدولارات.
المقال بتاريح 12/4/2022
المصدر: Wikimedia commons