منتصف ليل اليوم، تنتهي ولاية برلمان 2018، وتبدأ من الساعة الصفر من 22 ايار ولاية السنوات الاربع لخلفه. بيد ان دون مباشرته صلاحياته، تكوين ادارته الممثلة بهيئة مكتبه، واولها انتخاب رئيسه ونائب للرئيس. قبل ذلك ليس النواب الجدد سوى حبر على ورق
ما يحدث الآن في الخلاف على انتخاب رئيس للبرلمان المنتخب ونائبه ليس الاول. سبق ان حدث بعد انقسام البرلمان المنتخب عام 2005 اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية في لبنان. حينذاك، كان فقد نائب المجلس المنتخب منذ عام 1992 ايلي فرزلي موقعه، وأشعرت النشوة والرغبة في تصفية حساب قديم والثأر السياسي قوى 14 آذار بفائض قوتها، بعد اسقاط الغالبية النيابية لحلفاء سوريا وانتقالها اليها، في مرحلة يراد فيها التحول الى نقيضها. ما ان انجزت انتخابات 2005، على ابواب الاستحقاق التالي وهو انتخاب رئيس للمجلس الجديد، ابلغ النائب حينذاك سعد الحريري الى الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله رفضه التصويت للرئيس نبيه برّي، وطلب منه اختيار اي مرشح آخر لرئاسة المجلس، وإن كان من الحزب نفسه، ولم يمانع في احد النائبين محمد رعد او محمد فنيش. جواب نصرالله الذي لم يتأخر التمسك ببرّي وحده رئيساً للمجلس. على مضض، انتهى المطاف بتسليم الحريري وحلفائه في قوى 14 آذار بالخيار غير القابل للمساومة، وإن تحت وقْع تبدّل موازين القوى السياسية داخل الحكم وقتذاك.
الثمن المقابل، بسبب خسارة فرزلي، ان نقلت الغالبية الجديدة نيابة الرئاسة اليها بمرشح وحيد هو النائب فريد مكاري. ترجمت هذا الانقسام الارقام المسجلة في الجلسة الاولى للبرلمان الجديد في 28 حزيران 2005. حضر الى القاعة كل النواب المنتخبين – وفي الغالب والتقليد في اولى جلسات مجلس جديد لا يتغيب احد عن الصورة التذكارية وعن التعرف الى مقعده والى سواه. من 128 نائباً، حاز برّي 90 صوتاً الى 37 ورقة بيضاء وورقة لاغية، بينما تقدّم عليه مكاري بانتخابه بـ99 صوتاً و26 ورقة بيضاء ومغلفين فارغين. حينذاك، بغية ارسال اشارة سلبية ذات دلالة الى الثنائي الشيعي، حجبت الغالبية اصواتاً عن برّي، وهو ما لم تفعله الاقلية مع مكاري. في الانتخابات التالية عام 2009، في ظل الاكثرية والاقلية اياهما، تكرر المشهد دونما تكرار عرض 2005. فاز برّي بـ90 صوتاً من المقترعين الـ127، ومكاري برقم ادنى هذه المرة هو 74 صوتاً بلا منافس. ردت الاقلية التحية بمثلها، بأن حجبت جزءاً من أصواتها في المرة الثانية. على مر وجوده التاريخي على رأس البرلمان، كانت الاصوات الـ90 في انتخابات 2005 و2009 الادنى في المسار الطويل لبرّي مذ بلغ الرقم الذروة عام 2000: 124 صوتاً.
تستعاد اليوم السابقة في ثالث تحوّل كبير تشهده برلمانات ما بعد اتفاق الطائف. الاول من كتلة واحدة (اعوام 1992 و1996 و2000)، ثم من كتلتين (عامي 2005 و2009)، فكتل مفككة (عام 2018)، وصولاً الى الآن من ثلاث كتل متوازنة تقريباً. ليس في برلمان 2022 مَن يمتلك الاكثرية المطلقة، ولا وطأة الانقسام تتيح تضافر كتلتين ضد ثالثة كي تقبض على النصف +1. اكثر من تلك التي سبقته، يملك البرلمان الجديد في ذاته بذور تعطيله، وربما بذور انفجاره ما لم يتداركه، من خلال مزيج عجيب من قواه يتطلب تفسيره – لا تبريره حتماً – مرور بعض الوقت وانتظار المحطات التالية. وما الصراع على انتخاب رئيس للمجلس ونائب للرئيس هذه المرة الا احدى علامات الانقسام. ليس نزاعاً على اعادة انتخاب الرئيس الحالي للمجلس، الشيعي الوحيد المرشح وفي الوقت نفسه مرشح اجماع المقاعد الشيعية الـ27. بل يقيم الخلاف في المنصب المحسوب قليل الاهمية، والبعض يعتبره ملحقاً بالمنصب الاول بعدما تلازما 13 عاماً (1992 – 2005) من خلال تناغم ثنائية برّي – فرزلي، ثم في الاعوام الـ13 التالية (2005 – 2018) مترجحاً بين الانقطاع والتباعد وفي بعض الظروف الاستفزاز من خلال ثنائية برّي – مكاري. لا يزال ماكثاً في الذاكرة عامي 2007 و2008، ابان الشغور الرئاسي، عندما هددت قوى 14 آذار بفرض انتخاب رئيس للجمهورية من صفوفها بنصاب النصف +1 في فندق فينيسيا، وتكليف مكاري – بصفته نائباً للرئيس ذا صلاحية الرئيس – توجيه الدعوة الى جلسة الانتخاب، بذريعة ساذجة ان رئيس المجلس استنكف عن الاضطلاع بمسؤولياته عن الصلاحية تلك، وهو تالياً – بغية الايحاء باحترام قانون النظام الداخلي – متغيّب ومنقطع عن وظيفته. لم تطل التمثيلية هذه طويلاً. ما بعد انتخابات 2009 راحت كتلتا 8 و14 آذار تتحللان تدريجاً كي تختفيا تماماً في انتخابات 2018.
محور الاشتباك القائم حالياً يمسي اكثر وضوحاً:
1 – بداية الاجتهاد في المادة الثانية في النظام الداخلي للمجلس، القائلة بامهال رئيس السن 15 يوماً حداً اقصى لتوجيه الدعوة الى جلسة تكوين هيئة مكتبه (الرئيس ونائبه والمفوضون الثلاثة وامينا السر). البعض يقول ان المهلة مقيِّدة وملزمة، والبعض الآخر انها مهلة حث وليس اسقاط. في الغالب، منذ انتخابات 1992، التأم البرلمان الجديد في يوم بداية ولايته وانتخب هيئة مكتبه، وحضر كله ما خلا استثناءات.
الـ15 يوماً للدعوة الى جلسة الانتخاب مهلة حث أم اسقاط؟
بعض الكلام الشائع ان برّي – للمصادفة غير المسبوقة ان يكون رئيس السن والمرشح في آن معاً وان يسلّم الرئاسة بنفسه الى نفسه – لن يدعو الى جلسة ما لم يسبقها، كما التقليد المتبع، تفاهم على انتخاب الرئيس ونائبه. يقال، في تفسير معاكس، ان لا غضاضة في تخطي المهلة ما دامت غير مقيَّدة بجزاء او إلزام. لم يسبق ان إختُبرت المادة الثانية على نحو كهذا. لكن المعلوم ايضاً ان الكتلتين الاخريين (الكتلة المسيحية الممثلة في التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية ومجموعة نواب المجتمع المدني) ليستا في وارد التوافق المسبق، وتريدان فصل احد الانتخابين عن الآخر. يدرك هذان الفريقان انهما سيخسران انتخاب الرئيس، ويرغبان في تعويضه بحصول كل منهما على نيابة الرئاسة.
2 – اياً يكن الاجتهاد وتفسير المادة الثانية في النظام الداخلي، الا ان لتأخير التئام البرلمان وانتخاب هيئة مكتبه الى ابعد من المهلة المنصوص عليها، من شأنه الارتداد على الاستحقاقات التالية، واهمها اجراء الاستشارات النيابية لتسمية رئيس مكلف تأليف حكومة جديدة. وهي تبدأ في قصر بعبدا وتنتهي في ساحة النجمة. التعطيل الاول يؤول الى تعطيل ثان.
3 – لأن اياً من الاقليات الثلاث لا تملك بمفردها نصاب الغالبية (65 صوتاً)، يصح القول ان قياساً كهذا ربما يصبح احدى عادات جلسات الولاية الجديدة. اولى محاولات خلط الاحجام، ان رافضي انتخاب برّي لا يملكون بديلاً منه، كما ان المستعجلين وضع اليد على نيابة رئاسة المجلس يحتاجون بدورهم الى النصف+1، وتالياً الى المكوّن الشيعي الممثل في حزب الله وحركة امل. ذلك ما يفضي الى حتمية التوافق وابرام صفقة.
المصدر: جريدة الأخبار