كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
الحديث عن إقرار قانون «الكابيتال كونترول» لم يتوقف يوماً منذ بداية الأزمة، ليصور اليوم على أنه موضوع الساعة الذي يعمل عليه بتوصيات صندوق النقد الدولي. ولكثرة مشاريع القوانين ومقترحاتها المقدمة والمناقشة والمعدّلة على طاولتي الحكومة والبرلمان، يصح تشبيه مسار هذا القانون المنتظر بـ»قصة إبريق الزيت». «على هذا المنوال سقطت مقترحات قدمها وزير المالية على طاولة رئيس الحكومة حسان دياب، وسقط طلب حاكم مصرف لبنان لنيل صلاحيات استثنائية لتنظيم القيود التي طبقتها المصارف العاملة في البلد على المودعين وتوحيدها. كما اسقطت صفة العجلة أيضاً عن اقتراح القانون المعجل المكرر المقدم من النواب ياسين جابر، سيمون أبي رميا وآلان عون. كما سقطت التعديلات التي أدخلتها على القانون لجنة المال والموازنة بعدما استلمت دفه المقترح وسيرت سفينته بتوجيهات صندوق النقد بنسبة 80%»، بحسب ما تفيد مصادرها. وبعد مضي نحو أربعة أشهر على سقوط آخر نسخة من قانون الكابيتال كونترول ستحط المسودة الجديدة (الشبح) اليوم على اللجان المشتركة. حيث من المستبعد أن يتم التوافق عليها مع كل الالتباسات التي تتضمنها في الشكل والمضمون لكي تعرض على التصويت في الجلسة العامة يوم غد.
مسودة القانون الجديدة التي «هبطت من خارج الأصول ولا تمت إلى اقتراحنا بصلة»، بحسب تغريدة لرئيس لجنة المال والموازنة النيابية النائب ابراهيم كنعان، لم توقع من أي نائب لتصلح أن تكون «اقتراح قانون». وهي لا تختلف عن سابقاتها لجهة التنصل من حماية المودعين، وضمان انتظام النشاط الاقتصادي، ولا سيما في المادة 5 التي تسمح بسحوبات لا تزيد عن 1000 دولار شهرياً بالعملة الوطنية أو الأجنبية وفق ما تحدده «اللجنة» (مؤلفة من: وزير المالية، وزير الاقتصاد، حاكم المركزي، ويرأسها رئيس الحكومة أو وزير منتدب من الاخير. وتكون مسؤولة عن إصدار التنظيمات التطبيقية كافة المتعلقة بهذا القانون). في حين أن أولى المسودات نصت على إمكانية تحويل لحد 50 ألف دولار سنوياً لبعض الحالات. وفي ما خص سقف التحويلات للخارج للاغراض الطارئة بقي مبهماً وغير محدد صراحة.
أما الأكثر جدلاً في ما تضمنه القانون فهو:
– إسقاط صفة الاموال الجديدة عن كل التدفقات الواردة بين تشرين الاول 2019 ونيسان 2020. حيث اعتبر القانون أن الأموال الجديدة غير المشمولة بالقيود هي التدفقات الواردة بعد 9 نيسان 2020.
– إلزام المصدرين على إعادة عائدات التصدير بالعملة الأجنبية إلى المصارف اللبنانية، على ألا تعتبر هذه العملات أموالا جديدة وفقاً لمفهوم هذا القانون. ويعود «للجنة» تقرير كيفية استخدام العملات الاجنبية الناتجة عن عائدات التصدير.
– لا يتضمن القانون توحيد سعر الصرف كما أوصى صندوق النقد الدولي بـ»الصفحات الثماني» التي أودعها لجنة المال والموازنة قبل أكثر من سنة. فيما ألزم القانون أن تتم عمليات الصرف الأجنبي كافة وفق سعر الصرف المعتمد على منصة صيرفة.
– لم يتضمن القانون أي إشارة إلى الدعاوى المقامة على المصارف والتي لم يصدر بها الحكم بعد. ما قد يعني بطبيعة الحال استمرارها؟
إعطاء المصارف فترة راحة
وبالنسبة إلى النقطة الأخيرة تحديداً، يشرح المحامي البروفسور نصري أنطوان دياب انه «من الضروري تعليق كل المحاكمات القائمة أمام القضاء اللبناني ومنع إقامة دعاوى جديدة طيلة فترة تطبيق قانون الكابيتال كونترول، وذلك لسببين مختلفين: من جهة، لأن هدف القانون هو إعطاء القطاع المصرفي فترة راحة لاستعادة عافيته (بالطبع في إطار خطة شاملة تتضمن إجراءات وقوانين أخرى) بوقف نزيف التحويلات إلى الخارج، فلا يُعقل ان يبقى القطاع عرضةً لدعاوى جديدة ولاستكمال محاكمات قديمة لم تصدر بشأنها أحكام مبرمة، وإلا فلا مجال لاستعادة العافية. ومن جهة ثانية، فان المساواة بين المودعين وعملاء المصارف بشكل عام هي الأساس لكلّ حلّ عادل، فلا يمكن منع إقامة دعاوى جديدة والسماح في الوقت عينه بإستكمال المحاكمات العالقة، وإلاّ فيكون حصل تمييز غير مشروع بين من قدّم دعاوى قبل دخول قانون الكابيتال كونترول حيّز التنفيذ ومن لم يقدّم دعوى ويُمنع من تقديمها».
وختم البروفسور دياب أنه، و»عكساً لما يقوله البعض، فإن هذه المادة الخاصة بالدعاوى ضد المصارف لن تعطي «براءة ذمة للمصارف»، بل تعطي كل المودعين تكافؤ الفرص بالنسبة لاستعادة ما أمكن من ودائعهم بشكل سوي وعادل بعد إنتهاء العمل بهذا القانون».
من الناحية الاقتصادية؟
يشدِّد الباحث في الشؤون الماليّة والاقتصاديّة البروفسور مارون خاطر على أنَّ المشروعين اللذين لم يوافق عليهما صندوق النقد الدولي تَضَمَّنا إساءة فهم للاهداف الحقيقية للقانون، ولما يريده صندوق النَّقد من خلاله». والخوف الأكبر، بحسب خاطر، «هو أن يكون تجاهل الجزء الأهم من التوصيات مُتَعَمَّداً و مقصوداً منه دَفع الصندوق الى رفض المشروع مما يؤدي الى إسقاطه من أجل كسب جولة جديدة في تمرير الوقت وعدم الذهاب إلى الحلّ». فما يطلبه صندوق النَّقد الدولي من الكابيتال كونترول برأي البروفسور خاطر هو أن «لا يكون مكبِّلاً للاقتصاد، بل منظماً للتدفقات النقديَّة الدَّاخلة والخارجة خلال السنوات القادمة تزامناً مع التمويل المحتمل من قِبَل الصندوق. فالغاية من إقرار قانون الكابيتال كونترول ليس السماح بتحويل 10 أو 20 أو حتى 50 ألف دولار من الودائع للأغراض الطارئة في الخارج، بل التمكن من إدخال وإخراج الأموال الموجودة والجديدة بشكل منظم يساعد على تحفيز القطاعات الانتاجية والبناء عليها للنهوض بالاقتصاد«.
هل ما زال قانون «الكابيتال كونترول» ينفع، بعدما نفدت الرساميل من المصارف؟
يجيب خاطر بالايجاب، ويؤكد أن إقرار القانون في هذا الوقت لا يهدف الى وضع ضوابط تنفيذيَّة على حركة الأموال بل الى تنظيم التدفُّقات النقديَّة ومنع التهريب.
إنطلاقاً مما تَقَدَّم، يعتبر خاطر أن العمل على الكابيتال كونترول «يُحَتِّم العودة إلى ميزان المدفوعات، وتحديداً إلى حسابَي الأخطاء والاغفالات والحساب الجاري. الحساب الأوَّل يساعد على ضبط التهريب وتفعيل إلزاميَّة مرور العمليات عبر المصارف. أما الحساب الثاني فيوجِّه وضع القيود بطريقة تتناسب مع متطلبات القطاعات الإنتاجيَّة لناحية حاجتها للإستيراد من أجل التَّصدير.
محفز للاقتصاد ولا ينسف الليبرالية
في سياق مُتَّصل، أوضح البروفسور خاطر أن الكابيتال كونترول «الذي يريده صندوق الدولي» لا يمكن تطبيقه إلا من خلال مصرف لبنان والمصارف التجارية العاملة في لبنان. لذلك لا بُدَّ للقانون، إن أريد له النجاح، أن «يتزامن مع إعادة هيكلة المصارف وعودة الثقة بالقطاع المصرفي وبمصرف لبنان». ويشير الى «وجوب تطبيق الكابيتال كونترول لفترة محددة، وأن يكون مُحَفِّزاً للاقتصاد فلا يتعارض مع النظام الليبرالي الحرّ الذي يعتمده لبنان.
فبالإضافة الى تنظيمه خروج رؤوس الاموال من أجل شراء المواد الأولية المخصصة للصناعات والزراعات التَّصديريَّة، يجب ألا يقيد اي قانون كابيتال كونترول رؤوس الاموال المستثمرة في لبنان. فجذب المستثمرين مستحيل في ظل تدابير تمنعهم من إخراج عائدات استثماراتهم».
وبحسب البروفسور خاطر فان «مشروع القانون الجديد المُتداول، والذي سيناقشه المجلس النيابيّ اليوم، لا يتضمَّن تعديلات جوهريَّة ترتكز الى جوهر وأهداف الكابيتال كونترول.
من جهة أخرى رأى خاطر «أنَّ تداعيات إقرار هكذا مشروع على الإقتصاد ستكون مؤلمة وتحكمها الإستنسابيَّة الناتجة عن وجود لجنة تَمنَح وتَحجُب الإستثناءات في زَمَنٍ يَضُجُّ بالانتخابات والفساد!».
بالنسبة للدعاوى المقامة أو التي ستقام في الخارج ضد المصارف، يؤكد المحامي البروفسور نصري أنطوان دياب ان «في مجمل الأحيان، وعملاً بقواعد القانون الدولي الخاص من تنازع الاختصاص القضائي الدولي وتنازع القوانين (conflits de lois et de juridictions)، فإن القاضي الأجنبي الذي يعتبر نفسه مختصاً للنظر في دعوى مقامة من عميل مصرفي ضد مصرف لبناني يطبق على المنازعة القانون اللبناني وليس قانونه الوطني. فإذا وجد هذا القاضي الأجنبي ان هناك قانون كابيتال كونترول في لبنان، وإذا تضمن هذا القانون مادة تؤكد صراحةً على ان هذا القانون يتعلق بالانتظام العام الداخلي والدولي (Ordre public interne et international)، فمن المرجّح ان يأخذ القاضي الأجنبي بهذا القانون ويوقف الدعوى المقدمة أمامه». وهنا أيضاً يقول البروفسور دياب «إن هذا الحل ضروري للأسباب التي ذكرناها بالنسبة للدعاوى المقامة في لبنان، وبشكل أولى بالنسبة للمساواة بين المودعين؛ إذ إن المودع المقيم في لبنان والذي لا يمتلك ما يكفي من الأموال لإقامة دعوى في الخارج ووضعه القانوني لا يربط اختصاص القاضي الأجنبي، لن يتمكن من إقامة دعوى في الخارج، وبالتالي سيحصل فقط من يتمكن من المودعين من إقامة هكذا دعوى في الخارج على أموال من المصارف اللبنانية، ولن ينال المودعون المقيمون في لبنان أي شيء».
عبثاً يحاولون من دون خطة اقتصادية ومالية شاملة
الكابيتال كونترول على أهميته «لن تكون له أي قيمة، إن لم يترافق مع خطة اقتصادية شاملة»، بحسب الباحث في الشؤون الماليّة والاقتصاديّة البروفسور مارون خاطر. فالحلول على «القطعة» ليست مجدية وهي أعجز عن إحداث أي خرق في جدار الأزمة كما أثبتت التجربة».
في المحصلة لا شيء مما يطلبه صندوق النقد الدولي يمكن القيام به بالمفرق. لا في ما يتعلق بارجاع الودائع كما حصل في التعميم 158، ولا في خطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي منفردة، أو القيام بالتدقيق الجنائي من دون بَقيَّة الاصلاحات، أو معالجة الدين العام بعيداً من ردم الفجوة في مصرف لبنان أو وضع خطة للكهرباء من دون رفع الوصاية السياسية عن القطاع، والقائمة تطول من إصلاحات يجب أن «توضع جميعها في سلة المعالجة الواحدة»، برأي البروفسور خاطر. «لان معالجة كل مشكلة على حدة تؤدي إلى تحميل وزر الاصلاحات إلى الطرف الأضعف دائماً، أي المودع والمواطن. فلا يمكن لأي تدبير مما يطلبه صندوق النقد أن يكون مفيداً للاقتصاد والمواطن إلا في إطار المعالجة الشاملة المرتكزة على خطة التعافي الاقتصادية، التي لم تبصر النور إلى الآن لأسباب ما زلنا نجهلها وهي بالأغلب سياسيَّة. ومع الأسف فان أتت الخطة، فلن تكون على قدر التوقعات لانه ليس هناك مزاج سياسي في البلد أو نية للتعامل بجدية مع الازمة وانقاذ لبنان. فكل ما تبرع به السلطات هو تمرير الوقت بانتظار استحقاق ما ينتظرونه كما ينتظره صندوق النقد الدولي»، يختم البروفسور خاطر.