ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الاحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت، في حضور حشد من المؤمنين.
بعد الانجيل، ألقى عظة قال فيها: “نصل اليوم إلى الأحد الثاني من فترة التهيئة للصوم الأربعيني المقدس، المعروف بأحد الإبن الشاطر. لقد سمعنا في إنجيل اليوم المثل الذي أعطاه الرب لتلاميذه، والذي فيه يطلب الإبن الأصغر “النصيب الذي يخصه من المال”، أي حصته من ميراث أبيه، الذي لا يزال حيا، مريدا أن يبتعد عن سلطة والده والعيش في الخلاعة والإسراف. هكذا تتمرد الخطيئة على الله الخالق، متحدية الفضيلة.
الفضيلة زرعت في طبيعتنا منذ أن خلقنا، أما الشر فدخل فينا بعد ذلك، كجسم طفيلي، وهو غريب عن طبيعتنا. إنه يفسدنا، ويبعدنا عن بيت أبينا، أي عن ملكوت نعمة الله، ثم يطرحنا إلى الجوع الروحي، في بقعة المواطنين الأشرار. يستعبدنا لأناس جعلوا من الأهواء الرديئة طريقة حياتهم اليومية. حينئذ نأخذ معنا “النصيب الذي يخصنا من المال”، أي كل ما أعطانا الله من المواهب، مثل الإبن الشاطر أو الضال في مثل اليوم، ونبذرها في الخطيئة “عائشين بإسراف”.
أضاف: “إن اللحظة الحاسمة في مثل الإبن الشاطر هي عودة الإبن الأصغر. واللحظة الحاسمة في حياتنا هي الشعور بجوع روحي يحضر إلى ذاكرتنا “أجراء” البيت الأبوي، الذين “يفضل عنهم الخبز”. البيت الأبوي هو كنيسة الله الحي. وهذه الذكرى، إذا غذاها إيماننا بمحبة الآب لنا، تؤول بنا إلى القول: “أقوم وأمضي إلى أبي”. فمحبة الآب هي القوة المحركة التي تنهض الإبن الشاطر من موته وتدفعه الى حضن أبيه. يقول الرسول يوحنا: “الله محبة” (1يو 4: 16)، والأب في المثل هو الله. وبما أنه لا يريد عبيدا، بل أبناء، فهو لا يحاول أن يثني الإبن عن قراره، وهو قرار كل إنسان يهجر الله ويبتعد عن “سلطة” وصاياه. لكن، ما إن عاد الإبن الضال ، و”كان لا يزال بعيدا”، حتى أسرع أبوه نحوه وعانقه بمحبة، وقاده إلى البيت الأبوي، محولا إياه من عبد للمواطنين الأشرار، إلى ابن بهي لملكوته”.
وتابع: “إن ذكرى المحبة الأبوية هي القوة التي أبطلت كل العوائق القادرة على رد الإبن الضال عن قرار العودة. عندما يسقط الإنسان في الخطيئة، يفقد دالته أمام الله، يعيش بخلاف المشيئة الإلهية، ويناهض الوصايا بأعماله. في هذه الحالة، يشعر بأن الله عدوه. طبعا، يبقى الله المحبة التي لا ترد أحدا. إلا أن الإنسان يعيش هذه العداوة في داخله. تذكر محبة الله، هذا الإله الذي ينتظر المثقلين بأحمال الخطايا لكي يريحهم، هو ممارسة مرتبطة بصلاة التوبة. فمن دون تذكر هذه المحبة، لا يمكننا أن نلفظ أي كلمة صلاة، وتاليا لا نقدر أن نعود إلى المسيح ونرتبط به. أناس كثيرون لديهم نوع غريب من عزة النفس، تمتزج فيها المعرفة، ولو البسيطة، لحالتهم الروحية السيئة، بنوع من الكرامة هو في الحقيقة وجه من وجوه اليأس الشيطاني. هؤلاء يأنفون من استخدام وسائل العودة إلى الله والتوبة، بعد أن بذروا أكثر أوقات حياتهم في الإلحاد والجحود والخطيئة. يستخفون بهذه الأمور، فإذا بنا أمام إحدى الحالات حيث يظهر شيطان اليأس ورفض التوبة بمظهر ملاك نور، ملاك الكرامة وعزة النفس. أما ذكرى محبة الله لنا، وهو يريد الناس كلهم “أن يخلصوا وإلى معرفة الحق يقبلوا”، فتطيح بكل أساليب الشرير التي تحاول اعتراض درب العودة، وتبددها”.
وقال: “عندما عاش الإبن الشاطر في الرفاهية، إستسلم للذات “مبذرا ماله” في الخلاعة. وما إن بدأ يعاني الحرمان والجوع، حتى رجع إلى نفسه. الإحساس بالجوع أحضر إلى ذهنه ذكرى بيت أبيه. هكذا، نحن أيضا، يوقظنا الإحساس بالجوع الروحي من خمول الطيش ويعيدنا إلى أنفسنا وإلى ذكر الله. عرف الإبن الشاطر بيت أبيه، وما فيه من حياة، وكان هذا سبب عودته. هذا الأمر معناه أن أحدا لا يستطيع أن يتوب إن لم يعرف الحياة التي يعطيها الروح القدس، ولو معرفة يسيرة. إن توبة الإنسان تتحقق بمبادرة من الله، عندما تفتقدنا نعمته. يعلمنا الآباء القديسون أن الإنسان الذي لم يتقبل نعمة الله بعد، يكون راضيا بحاله. فهو يشبه إنسانا مغلقا عليه في السجن، لا يعرف أن حدود الدنيا أوسع من جدران زنزانته. لكن، حالما ترفعه نعمة الله إلى علو روحي، تتبدل الأمور. يصبح أشبه بنسر يشرف على الدنيا، وهو حر منها في الوقت نفسه. عندئذ، يرى السماء اللامتناهية، ويفرح لأنه دخل طريق كمال الكاملين الذي لا ينتهي. بعد ذلك لا يستطيع أن يجد راحته أبدا في قفص الملذات والمقتنيات والأملاك والمراكز، ولا في قفص السعادة البشرية الزائفة، ومهما يشرد قليلا بسبب عدم نضوجه أو ضعف إرادته، تعود سماء الحرية لتجتذبه، وتحاول أن تحرره بكل الوسائل. يشتد إحساسه بالحرمان، فيجوع ويعطش إلى بر الله وإلى شركة الروح القدس”.
أضاف: “لعل كثيرين يحلو لهم القول: “إن نعمة الله لم تفتقدني قط، ولا اختبرت حياة الروح القدس حسيا، فكيف أتذكر ما أجهله؟”. يقول الآباء القديسون: “علينا أن نفعل ما نعرفه، وسيكشف لنا ما نجهله”. الله يعطينا نعمته بطرائق متنوعة، لكننا نتجاهلها بسبب حياتنا المفعمة بالإنشغالات، فنتركها غير مستثمرة. نهتم وننهمك بأمور كثيرة، ونصم آذاننا عن صوت الضمير، وعن إلهامات النعمة. لقد قال الإبن الشاطر: “أقوم وأمضي…”، فوجد خلاصه في ذلك القرار. أما نحن فلنستجب لدعوة الله بالحزم نفسه، لأن الله يريدنا أبناء لملكوته، لا عبيدا للأهواء الشريرة والمصالح ومغريات العالم”.
وتابع: “مثلما يقف المسيحي أحيانا موقفا معاديا لله، يريد أن يأخذ منه نصيبه، ولا يريد أن يحافظ على الميراث، كذلك نجد اللبنانيين اليوم يعادون بلدهم، يريدون منه كل شيء، ولا يقومون بأي شيء دفاعا عن هذا الميراث العظيم الذي دافع عنه الكثيرون قبلنا وحفظوه حتى وصل إلينا. اللبناني مطالب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بأن يتذكر أن بلده له، وليس لأي غريب نزيل على أرضه، أو متدخل في شؤونه. لهذا، عليه أن يتشبث بوطنه الذي يحسده عليه كثيرون، والذي ذكر أكثر من سبعين مرة في الكتاب المقدس. على اللبناني ألا يستسلم لما يحاك له من شرور ومكائد وتسويات، ومن مؤامرات تهجيرية، وأن لا يسكت عمن يتطاول على هيبة بلده أو سيادته، أو يفرط بحقوقه، وأن يتمسك بكل حبة من تراب بلده ويدافع عنه، لكي لا يفقده ويصبح كالإبن الضال مستعبدا في بلاد غريبة، للمال والملذات، التي يظهرها العالم كأنها هي الغاية من الحياة”.
وقال: “لبنان لا يقوم إلا بأبنائه، بإيمانهم به ووفائهم له، بثمرة أتعابهم، وبصوتهم المدوي وقرارهم الحر. هذا الصوت يجب أن يصدح عبر صناديق الاقتراع، في الإنتخابات المقبلة التي من الضروري أن تحصل في وقتها المحدد، من دون تأجيل أو تمديد أو تهديد. بلدنا مهد للحرية والحضارة والديموقراطية، فلا تسمحوا بأن يحوله البعض ساحة للفوضى أو التعصب أو الدكتاتورية المقنعة، تحت راية عشق الزعيم والحزب والطائفة. حكموا ضمائركم، ولا تتخلوا عن بلدكم، فلا ذنب له بخطيئة زعمائه الذين تخلوا عنكم وتسببوا بانهيار بلدكم، وفجروا عاصمتكم، وهجروكم وجوعوكم، وأخفوا الدواء عن مرضاكم، وتاجروا بالمحروقات على حساب مدخراتكم، وحولوا حياتكم إلى جحيم مظلم. هؤلاء يتعاملون بخفة لا مثيل لها مع هموم الشعب ومصيره، ومع كرامة البلد وسيادته، ويجرون الشعب إلى التخلي عن فكرة الدولة واستبدالها بالجماعة. لا يلتفتون إلى القلوب المحروقة والبيوت المهدمة والنفوس المكسورة والنعوش التي أغلقت على حشا القلب. لذا من واجب المواطن ألا يصفق للزعيم ويهتف باسمه عوض الهتاف باسم الوطن، والإنشغال ببناء الدولة واستعادة سيادتها وقرارها الحر، والإقتراع لمن هم قادرون على ذلك. إنقاذ البلد قائم على تذكركم لمحبتكم تجاه لبناننا الجميل، والعمل الدؤوب على إنقاذه من براثن الشر والأشرار”.
وختم: “إنجيل اليوم يدعونا ألا نغادر البيت الأبوي، مهما اشتدت الصعاب، ومهما بدت بيوت أخرى أكثر جاذبية. دعوتنا أن نبقى، وأن نحافظ على تماسك بيتنا، وعلى ثبات أساساته”.