عادت قضية حي الشيخ جراح في القدس المحتلة إلى واجهة الأحداث من جديد، وتصدرت المشهد الفلسطيني، لما شهدته من تصاعد خطير باعتداءات المستوطنين المتطرفين وقوات الاحتلال الإسرائيلي على سكان الحي، في محاولة لحسم تلك القضية، التي تشكل أيقونة في الصراع، ومحاولات التهجير القسري والتطهير العرقي.
وخلال الأيام الأخيرة، تعرض الشيخ جراح إلى اعتداءات غير مسبوقة من المستوطنين وقوات الاحتلال، تخللها عمليات ضرب وقمع وملاحقة، ومواجهات عنيفة وإلقاء للقنابل الصوتية والغازية، ما أسفر عن وقوع عشرات الإصابات.
ويرى مختصون بالِشأن المقدسي أن تصدر قضية الشيخ جراح واجهة الأحداث مجددًا يؤكد إصرار الاحتلال على ضرورة حسمها، وتحقيق مطامعه بالسيطرة على الحي، تمهيدًا لإقامة قوس من الكتل الاستيطانية، يفصل قرى القدس عن بعضها.
أيقونة الصراع
المختص في شؤون القدس ناصر الهدمي يرى أن عودة أحداث الشيخ جراح “تعبر عن إصرار سلطات الاحتلال على إنجاز هذا الملف خصوصًا، وجعل منه نموذجًا يشكل نجاحًا للاستقواء في القدس”.
ويوضح في حديثه لوكالة “صفا” الفلسطينية أن الشيخ جراح يشكل أيقونة في مواجهة سلطات الاحتلال، كونها تعتبره “خاصرة ضعيفة بالنسبة للأحياء المقدسية، وأيضًا فرصة لإقامة حي استيطاني يمتد من القسم الغربي للمدينة باتجاه حي وادي الجوز والبلدة القديمة”.
وفي مقابل عودة الأحداث، فإن الاحتلال يُواجه صمودًا وإصرارًا مقدسيًا للحفاظ على الأحياء المقدسية، وعدم اختراقها لأجل تنفيذ الاستيطان، وفق الهدمي.
ويضيف أن الشيخ جراح شكل بورة لتفجر الصراع مع الاحتلال، وما حدث بمايو الماضي في معركة “سيف القدس”، وانضمام المقاومة الفلسطينية إلى معادلة الصراع، ووقفوها إلى جانب المقدسيين وأهالي الشيخ جراح ودفاعها عنهم، كسر هيبة الاحتلال.
وبنظر الهدمي فإن “الاحتلال يتخوف من احتدام الصراع، واتساع رقعة المواجهة لتصل إلى مدن الضفة الغربية المحتلة، لكنه في المقابل حريص على عدم تفجر الموقف والأوضاع في الشارع الفلسطيني، وخاصة في مدينة القدس”.
ويشير إلى أن سلطات الاحتلال لا تستطيع التراجع عن ملف الشيخ جراح، ومحاولاتها لتهجير سكانه، لكنها ستعمل ببطء شديد، حرصًا على عدم انفجار الأوضاع.
صمود وتحدي
ورغم تصاعد اعتداءات المستوطنين وقوات الاحتلال على سكان الحي، إلا أن المقدسيين سطروا أروع ملاحم الصمود والتحدي في مواجهة تلك الاعتداءات، وأصبحوا مثل كرة ثلج تتعاظم يومًا بعد يوم مع الشيخ جراح، كما يؤكد الهدمي.
وعن اقتحام عضو الكنيست المتطرف “إيتمار بن غفير” للشيخ جراح في هذا التوقيت بالذات، يرى الهدمي أن “بن غفير يعمل على استغلال الأحداث من أجل سمعته الشخصية وبناء صورته داخل المجتمع الإسرائيلي، فهو شخص استعراضي يريد أن يجعل من نفسه أيقونة يمثل جرأة التطرف في الكنيست”.
ولمواجهة المتطرفين واعتداءاتهم المتواصلة، يؤكد على ضرورة تكثيف التضامن المقدسي مع أهالي الشيخ جراح، والوحدة بين أبناء الشعب الفلسطيني سواء في القدس أو الضفة، مع الحفاظ على الحالة الثورية داخل المجتمع الفلسطيني.
ويشدد المختص في شؤون القدس على أن تصاعد المواجهة في كافة مدن الضفة يشكل نوعًا من التضامن والدعم لسكان الشيخ جراح.
أسباب المواجهة
وتشكل قضية الشيخ جراح واحدة من قضايا الصراع المركزية مع الاحتلال لحسم السيادة على القدس، والتي يسعى للسيطرة والإجهاز عليها، في إطار خطة ممنهجة، لإقامة قوس من الكتل الاستيطانية تفصل شمال قرى المدينة عنها،بحسب الكاتب والمحلل السياسي راسم عبيدات.
ويوضح عبيدات، لوكالة “صفا”، أن الاحتلال استخلص جملة من العبر والدروس بعد معركة الشيخ جراح الأولى، وما شهدته من اشتباك جماهيري شعبي واسع ونقلها من قضية محلية مقدسية إلى عالمية، أثارت ردود فعل في العالم، خاصة بعد نجاح إدارة المعركة سياسيًا وإعلاميًا.
ويشير إلى أن الاحتلال تعرض لانتقادات واسعة من العالم إزاء ما يمارسه من سياسة تهجير قسري وتطهير عرقي، بالإضافة إلى أن المعركة تطورت باتجاه انفجار الأوضاع بالقدس، وتدخل المقاومة بغزة بمعركة “سيف القدس”، التي وضعت المحتل أمام استحقاقات كثيرة، وربطت وحدة النسيج بين غزة والقدس.
وبحسبه فإن الاحتلال استخلص من تلك الفترة عدة دروس، تمثلت بألا يقود معركة الشيخ جراح بشكل كامل، وألا يعمل على مرحلة قضم الأراضي في الحي، حتى لا يكون هناك حشد جماهيري واسع واشتباك يتطور إلى هبة وانتفاضة شعبية.
ويرى أن عودة الأحداث في الشيخ جراح للواجهة بهذا التوقيت يرجع لعدة أسباب، أولًا: أن حكومة نفتالي بينيت هي حكومة مستوطنين تعمل من أجل الاستيطان، وتريد إرضاء هؤلاء المستوطنين، بهدف استمرار حكومته واستقرارها سياسيًا.
والسبت الثاني، وفقًا لعبيدات، أن حكومة الاحتلال تشعر بأن الحالة الفلسطينية ضعيفة وهشة ومنقسمة، وخاصة بعد عقد جلسة المجلس المركزي غير الشرعي واللا قانوني.
ويوضح أن السبب الثالث شعور الاحتلال بأن “هناك تمدد للمشروع الصهيوني والعلاقات مع الدول العربية من خلال الهرولة نحو التطبيع، وإقامة تحالفات استراتيجية وأمنية وعسكرية، وتوقيع اتفاقيات معاهدة دفاع مشترك، كما جرى في البحرين والمغرب”.
وأما السبب الرابع، برأي الكاتب المقدسي، هو أن أنظار العالم تتجه نحو ما يحدث بين روسيا وأوكرانيا واحتمالات اندلاع حرب في المنطقة، ولا تتجه نحو ما يجري في الشيخ جراح، وبالتالي فإن انشغال العالم بهذه القضايا قد يُساعد في تحقيق مطامع الاحتلال بالسيطرة على الحي الغربي.
ويضيف “عندما ينجحون بالسيطرة على حي الشيخ جراح، فإن ذلك سيمتد إلى قصر المفتي لتحويله إلى كنيس يهودي، وكذلك فندق شبرد الذي أقيم مكانه بؤرة استيطانية، ويجري توسيعها إلى 65 وحدة، ومن ثم صوب مبنى وزارة داخلية الاحتلال في وادي الجوز، حيث مشروع وادي السيلكون، وإلى مستشفى هداسا والجامعة العبرية”.
استراتيجية جديدة
وحول إمكانية تصاعد الأوضاع، يرى عبيدات أن ما يحدث في الشيخ جراح يضعنا أمام مواجهات ستكون أعنف وأشد مستقبلًا، وقد يدفع باتجاه الانفجار واندلاع معركة سيف القدس “2”، التي ستكون على شكل انتفاضة شعبية أعمق مما حدث سابقًا.
ويؤكد أن المواجهات والمعارك القادمة تحتاج إلى رسم خطط ورؤى واستراتيجية فلسطينية شمولية، لكيفية مواجهة مشاريع ومخططات الاحتلال الاستيطانية التهويدية في المدينة، ولابد من وضع آليات لتفعيل المقاومة والاشتباك الشعبي، بالترافق مع مواقف وإرادة سياسية ترتقي إلى مستوى الفعل الشعبي.
المصدر: الجديد