كتب مجيد مطر في “نداء الوطن”:
من الثابت أن تحركات الأمين العام للأمم المتحدة لا تأتي من فراغ. زياراته عادة تشير الى خطورة الأوضاع في الأماكن التي يزورها. لا يتحرك لأمر بسيط، بل لأمر جلل، غالباً ما تكون زياراته لاسباب لها علاقة بالاستقرار السياسي والأمني في البلد محل الزيارة. هذا يقع في صلب مهامه، التي تتكامل مع دور مجلس الامن، لناحية استشعار التهديد للسلم والامن الدوليين.
ولكل من يحسن القراءة، سيتضح له أن زيارة غوتيريش الى لبنان لا تأتي من أوقات فراغه، وهو لديه العديد من المشاغل والمهام. فالعالم يعيش أزمات معقدة، منها ما يتعلق بكورونا ومتحوراته، ومنها ما يتعلق بالتوترات المتنقلة في غير منطقة من العالم: التوترات بين روسيا وأوكرانيا، التوتر بين الصين وجيرانها، الأفق المسدود في مفاوضات فيينا بين ايران والولايات المتحدة، فضلاً عن انتشار نسخة جديدة من كورونا “اوميكرون” وهو اشد فتكاً وسرعة في التوسع. فالرجل يتحرك لوجود خطورة في مكان ما، قد تشكل تداعياتها تهديداً على السلم والامن الدوليين.
لبنان بهذا المعنى، دولة بواقعها المأسوي، تبرر من جهة، زيارته لها وتوضح على نحو لا يقبل الشك الأسباب من تلك الزيارة. فقد جاء الى لبنان في لحظة تأزم سياسي، مرتبط بأزمة اقتصادية وجودية، تجعل من المصير اللبناني مفتوحاً على كل الاحتمالات الخطرة والاشد خطورة. وقول مكتبه بأن الزيارة ستكون ذات طابع تضامني في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها لبنان دليل على أهمية زيارته، فالتضامن هنا لا يخفي جوهره السياسي كدافع أساسي للزيارة.
التقدير الواقعي لزيارته، يشير الى أننا لسنا في بلد طبيعي، فحكامه لا يجيدون الحلول الوطنية، من خلال عمل المؤسسات، بل تعطيلها. العالم كله ينظر الى عجز اللبنانيين عن إعادة التوازن وحفظ سلمهم الأهلي، وبناءً عليه بات من منطق الأشياء القول أن زيارة غوتيريش الى لبنان لها وظيفة سياسية بحتة، أما طابعها الإنساني فيأتي في المرتبة الأخيرة، فهو يحمل رسائل سياسية، من المجتمع الدولي الى السياسيين اللبنانيين، وهي رسائل مهمة لدرجة يمكن وصفها برسائل الخيارات المصيرية. وعندما تعجز كل دولة عن إيصال موقفها بدون أن تثير الحزازيات، يتم اللجوء الى الأمين العام للأمم المتحدة نظراً لموقعه ودوره المقبول من الجميع.
إن بلداً كلبنان، ونظراً لموقعه الجيوسياسي القريب من أوروبا، قد يشكل تهديداً لها لناحية تحوله الى مساحة مفتوحة، تسهل الهجرة غير الشرعية في ما لو تحولت ازمته السياسية الى فوضى تؤدي الى زعزعزة الاستقرار، كما قد تفقد المؤسسات الأمنية دورها في السيطرة على تلك العصابات المنظمة التي تعمل في مجال الهجرة غير الشرعية، وهذا الامر يقلق المجتمع الدولي، ولا يمكن له أن يتساهل في الموضوع، ويرفض مجرد الابتزاز فيه. فقد كان الرد قاسياً على أحد الوزراء عندما لوح بهذا الامر كمقايضة، عندما وقف عدد من الدول الأوروبية الى جانب الثورة اللبنانية، حيث اعتبر ذلك الوزير أن الفوضى التي ستحدث ستسهل الهجرة غير الشرعية الى بلدانهم، هذا ما حدا بدولة قبرص ارسال وفد الى لبنان لبحث مسألة قوارب الهجرة غير الشرعية.
ومن قصر النظر عدم ربط تحرك السيد غوتيريش صوب لبنان، بمضمون البيان الصادر بعد الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى المملكة العربية السعودية والذي اكد فيه الجانبان على “ضرورة حصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية، وألا يكون لبنان منطلقاً لأي اعمال إرهابية تزعزع امن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدرات”. فهذا البيان يشكل احد روافد زيارته الى لبنان لإبلاغ من يعنيهم الامر أن لا انفتاح عربياً وتحديداً سعودياً على لبنان اذا لم تلتزم الحكومة اللبنانية بما جاء في مندرجات ذلك البيان، فلا يمكن أن تقبل السعودية باقتصار دورها فقط على تقديم الحلول للبنان الذي يهيمن عليه فريق لا يتوانى عن إشهار عداوته لها. ويعتبر تصريح الرئيس ميقاتي عقب لقائه الزائر الكبير شديد الدلالة ويتعلق سياسياً بمضمون البيان الفرنسي-السعودي وقد جدد الرئيس ميقاتي تأكيد التزام لبنان بسياسة النأي بالنفس. وقال “لبنان لن يكون في مطلق الأحوال إلا عامل توحيد بين الإخوة العرب، حريصاً على أفضل العلاقات مع كل أصدقائه في العالم”.
وهناك رافد آخر على درجة عالية من الأهمية، يتعلق بزيارة الأمين العام للأمم المتحدة، إنه موضوع المفاوضات حول الحدود البحرية مع إسرائيل وملف الغاز، حيث تم وضعه بعهدة الأمم المتحدة والولايات المتحدة، وهذا موضوع شائك تشعر الأمم المتحدة بخطورته وما يمكن أن يتولد عنه من مخاطر امنية بنتيجته، تؤثر على امن المنطقة في وقت انظار العالم متجهة صوب فشل محادثات فيينا، والتهديد بالحل العسكري لمنع ايران من امتلاك السلاح النووي.
أما موضوع الانتخابات النيابية في لبنان، فهو من الروافد الاصيلة لزيارته، كون المجتمع الدولي يطالب بها ويلّحُ عليها، باعتبار أن تحديد مصير الأغلبية يحسم امره بالتصويت، وقد اعتبر غوتيريش أن الانتخابات “محطة رئيسية وعلى الشعب اللبناني أن يلتزم بشكل كامل في اختيار كيفية دفع البلاد قدماً”.
زيارة الأمين العام للأمم المتحدة وما صدر عنه من تصريحات، توضح من خلال طبيعة العلاقات الدولية، أن لبنان راهناً يُنظر اليه على أنه دولة عاجزة عن القيام بدورها، ولا يمكن للمجتمع الدولي تركه وحيداً، لا لتعاطف العالم معه، بل لكون استقراره في هذا الوقت مصلحة دولية جامعة، لا يمكن التهاون فيها.
أما زيارة السيد غوتيريش الى موقع جريمة المرفأ، حيث وضع إكليلاً من الزهور وحديثه عن تحقيق العدالة، فهي تشرح نفسها بنفسها…