بعلبك شبه معزولة بسبب الحرب… المعاناة تشمل كلّ شيء والأهالي في مواجهة المجهول

الضحايا تحت الأنقاض ولا أحد يستجيب”، صرخات أطلقها ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي تلخّص الأحوال في محافظة بعلبك – الهرمل منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان في تشرين الأول (أكتوبر) 2023. غير أن الوضع تفاقم بشكل كبير إبان التصعيد الذي بدأته إسرائيل قبل حوالى شهر، إذ دفعت بعلبك، ولا تزال، ثمناً باهظاً كالعديد من المناطق في لبنان، إلا أن الثمن الأكبر الذي فُرض عليها أنها باتت بحسب عدد من أبنائها “شبه معزولة عن العالم الخارجي”.

لمدينة بعلبك دائماً الحصة الكبرى من المعاناة، ليس لأنها الوحيدة التي تعاني إهمال الدولة وتتحمل تبعات العدوان الخارجي فحسب، إنما ايضا لأن المعاناة هذه المرة كانت خاصة بها بسبب عوامل عدة.

طاول القصف الإسرائيلي مناطق البقاع على اختلافها وبعلبك- الهرمل تحديداً، من مدينة بعلبك وضواحيها حتى مدينة الهرمل وجرودها. وبحسب تقرير لـ”المفكرة القانونية” غطى الفترة بين 23 أيلول (سبتمبر) و16 تشرين الأول (أكتوبر)، مستثنياً البقاع الغربي، حصلت 877 غارة في البقاعين الأوسط والشمالي. وكانت الحصيلة 382 شهيداً و890 جريحاً، وتدمير 1300 وحدة سكنية تدميراً كاملاً، وتضرّر 5500 وحدة سكنية جزئياً، إضافة إلى تضرّر أو إتلاف 560 سيارة.

ضحايا متروكون

“بلدتي شعت حصل فيها العديد من المجازر وهي من أكثر البلدات تضرّراً في المنطقة”، تقول ملاك، الصامدة في بلدتها البقاعية لـ”النهار”.

وتضيف: “في إحدى المرات، كانت الغارة قريبة جداً من منزلنا، ظللنا نناشد عبر مواقع التواصل لساعات، فالمشاهد غير قابلة للوصف، الضحايا بقوا ساعات تحت الأنقاض والمساعدة أتت في النهاية من جهود أهالي البلدة والاتصالات التي قاموا بها. من له معارف يملكون جرافات أو معدات متواضعة قابلة للاستعمال يأتون بها إلى مكان الاستهداف، هذه هي حال البلدة بعد مجازر عدة حصلت ولا تزال مستمرة”.

أطلق ناشطون عبر مواقع التواصل في المحافظة حملات لمساعدة المنطقة، خصوصاً في مجال الإنقاذ. فبعض الغارات كان في بلدات نائية لا تصل إليها خدمات الدولة حتى في أيام السلم، كجرود الهرمل مثلاً، فكيف يمكن أن يكون المشهد في أوقات الحرب عندما تغيب خطة طوارئ عامة للدولة من أجل مواجهة الأزمات؟

وبسبب كثافة الغارات الإسرائيلية وحدّتها، نشر ناشطون مقاطع فيديو لبلداتهم، حيث تُرك العديد من الضحايا تحت أنقاض منازلهم. وفي ليلة 25 أيلول (سبتمبر) وحدها، استشهدت عائلاتبأكملها: في يونين 23 شخصاً، في شعت 3، في الهرمل 4، في النبي شيت 3 وفي بعلبك المدينة 4، غير أن التحركات اقتصرت في الساعات الأولى على مساعدات فردية من الأهالي قبل أن يكتب ناشطون عبارة “بعلبك تباد” ويتناقلها ألوف.

آليات غير كافية وصعوبة في الانتقال

“محافظة بعلبك- الهرمل كبيرة جداً، وبالتالي عدد الآليات نسبة إلى عدد السكان قليل جداً”. يشرح المحافظ بشير خضر في حديث الى “النهار” صعوبة عمليات الإنقاذ في المنطقة وأسبابها، قائلاً: “أحياناً تحتاج الآلية إلى قطع مسافة حوالى ساعة للوصول إلى المكان المستهدف وخصوصاً أن القصف مستمر، وهذه مخاطرة كبيرة. ليست في كل بلدة هنا آليات مجهزة، وعلى الأخص البلدات في الجرود وغيرها. أجرينا أخيراً إتصالات بوزير الأشغال العامة والنقل علي حمية الذي ساعد في حل الموضوع”.

وعن أزمة المواد الغذائية التي تعتبر حاجات أساسية، يقول عروة، وهو مالك متجر في قرية الفاكهة لـ”النهار”: “في الأسبوع الأول كان الوضع صعباً جداً إذ توقف تدفّق المواد الغذائية بشكل كبير، وبالتالي أقفل العديد من المحلات التجارية وعانى الناس في المنطقة نقصاً في المواد الأساسية، وبعض التجار لجأ إلى استغلال الأوضاع ورفع الأسعار بسبب ندرة المواد الغذائية اللازمة”.

ويضيف: “الوضع بات أفضل بالنسبة إلى توافر المواد عندما بدأ التجار التأقلم مع الحوادث. في الأيام الأولى، وجدنا بديلاً في بلدة عرسال التي تبعد عنا حوالى نصف ساعة بالسيارة. ذهبت إليها وأحضرت بعض المواد الغذائية كي لا تنقطع عن الناس، غير أن الطريق إليها كانت محفوفة بالمخاطر. فلكي نصل إليها علينا أن نمر ببلدات مستهدفة بشكل دائم كالعين والنبي عثمان واللبوة. وأخيراً وجدنا الحل بأن ندفع إلى أحد معارفنا للذهاب إلى منطقة شتورا وجلب البضاعة، فلا أحد يتجرأ على الوصول إلى مناطقنا، هذا ما كلّفنا مالاً أكثر وأدى الى ارتفاع أسعار المواد الغذائية”.

ارتفاع أسعار المواد الغذائية في المنطقة سببه ليس قصف الطرق الرئيسية في البقاع فحسب – نحو 20 غارة طاولت هذه الطرق منذ بداية التصعيد – بل بسبب قصف المعابر الحدودية الشرعية وغير الشرعية، إذ قطع القصف الإسرائيلي معبري المصنع ومطربا الحدوديين إضافة إلى معابر غير نظامية على حدود قضاء الهرمل، كانت تستخدم جزئياً لتأمين مواد غذائية من سوريا تصل إلى المنطقة بطبيعة الحال بأسعار أرخص من الأسواق.

وإلى جانب أزمة المواد الغذائية، تواجه المنطقة صعوبة في إيصال الأدوية والمستلزمات الطبية، وهو ما تشرحه الصيدلانية ليان التي تملك صيدلية في بلدة المعلقة في جديدة الفاكهة، بقولها لـ”النهار”: “كنا نأتي بالأدوية من بيروت، وغالب المستودعات التي نتعامل معها هي في الضاحية الجنوبية، والآن بسبب التدمير الكامل الذي طاول الضاحية وبعلبك – الهرمل، قطع الاتصال مع العديد من تلك المستودعات”.

وتلفت إلى أن “معظم المندوبين امتنعوا عن إيصال الأدوية إلى المنطقة بأكملها، ففقد بعض الأدوية لدينا وبعضها للأمراض المستعصية والمزمنة، والآن نحاول أن نتواصل مع جهات أخرى لتلبية حاجات المرضى”.

مستشفيات “متواضعة”

أبرز مطالب الأهالي في السنوات السابقة كان تحسين المستشفيات وزيادة عددها، وقد عاد هذا المطلب ليكون على رأس القائمة هذه الأيام بسبب انخفاض عدد الأسرّة في المستشفيات نسبة إلى عدد السكان، وافتقارها إلى العديد من العمليات الطبية الكبيرة، وتوافر المراكز الطبية في أماكن معينة دون غيرها، إضافة إلى عدم قدرة السكان على الذهاب إلى خارج المنطقة بسبب الحصار الإسرائيلي وندرة وسائل النقل مع توقف عمل وسائل النقل الخاصة.

في بعلبك- الهرمل 9 مستشفيات خاصة واثنان حكوميان، 6 مستشفيات خاصة في مدينة بعلبك وضواحيها هي “دار الأمل” الجامعي والمرتضى والططري وابن سينا والريان و”دار الحكمة”، إضافة إلى مستشفى بعلبك الحكومي. وتضم الهرمل مستشفيين خاصين هما البتول والعاصي، إضافة إلى مستشفى “يونيفيرسال” في رأس بعلبك.

في هذه “العزلة” القسرية التي تعيشها المنطقة، تجلت المعاناة في المناطق التي تقع بين بعلبك والهرمل، فهي شبه خالية من المستشفيات والمراكز الطبية الحديثة، وبالتالي يحتاج نقل المريض أو الجريح إلى حوالى ساعة للوصول إلى المستشفى أو أكثر من ساعة ونصف ساعة للوصول إلى مستشفى خارجها، علماً أن مستشفيات قريبة تضرّرت بفعل الغارات وخرجت عن الخدمة بشكل موقت كمستشفى المرتضى في دورس.

لا أشغال يومية

من ضمن العوامل التي أدت – ولا تزال – إلى عزل المنطقة، ندرة الوظائف والمركزية الإدارية في المدن الكبيرة، مما دفع العديد من الناس إلى الاعتماد على المهن ذات المردود اليومي كسائقي الفانات وأصحاب المحلات التجارية، وهو ما توقف في هذه الفترة إلا في مناطق قليلة لم يطلها القصف حتى الآن.

وفي زيارة لأحد مراكز النزوح في ثانوية الفاكهة الرسمية، علت الصرخة الجماعية للنازحين الذين كانوا يعتاشون من المهن اليومية ويتقاضون أجراً يومياً، وبالتالي يقبع معظمهم منذ حوالى شهر بلا مدخول يذكر. وفي حديث لـ”النهار”، يوضح حسن إنه “هرب وعائلته تحت القصف على عاجل، وجلبوا معهم مبلغاً بسيطاً من منزلهم في النبي عثمان، مضيفاً أنهم باتوا الآن يعتمدون اعتماداً كلياً على المساعدات”.

“لم أذهب إلى عملي منذ اليوم الأول للحرب”، يقول حسان لـ”النهار”، ويضيف أنه “يعمل في مؤسسة خاصة في كسارة، يستغرق يومياً من منزله في الزيتون نحو ساعة ونصف ساعة ليصل إلى عمله، وعندما طلبت منه المؤسسة الذهاب يومين أو أكثر في الأسبوع، اقترح أحد الموظفين أن تؤمن المؤسسة فندقاً قريباً من العمل لعدم تعريض حياة الموظفين للخطر، ير أنها اعتبرت أن التكلفة ستصير كبيرة جداً فرفضت الاقتراح وتركت الأمر لكل موظف بحسب منطقته”.

ويشير الى “التزامه مع الموظفين في مناطق الخطر منازلهم، بينما يعمل الموظفون القريبون من مكان المؤسسة بشكل طبيعي”.

الأزمة تخطّت المياومين الذين يتقاضون أجراً يومياً إلى الموظفين في الدوائر الحكومية، فحتى من بقي في مهنته لا يستطيع تقاضي راتبه الشهري بسبب عدم القدرة على الوصول إلى البنوك في البقاع الأوسط وبيروت، وندرتها في المنطقة التي تعتبر خالية من البنوك إلا من بعض ماكينات الـ”إي تي أم” غير القادرة على إنجاز المعاملات المالية.

A man inspects the damage in a house that was hit in an Israeli airstrike in the eastern Lebanese city of Baalbek in the Bekaa valley on October 21, 2024, amid the ongoing war between Israel and Hezbollah. (Photo by Nidal SOLH / AFP)
People inspect the damage at the site of an overnight Israeli airstrike that targeted a neighbourhood in the eastern Lebanese city of Baalbek on October 24, 2024, amid the ongoing war between Israel and Hezbollah. (Photo by Nidal SOLH / AFP)
A man inspects the damage at the site of an overnight Israeli airstrike that targeted a neighbourhood in the eastern Lebanese city of Baalbek on October 24, 2024, amid the ongoing war between Israel and Hezbollah. (Photo by Nidal SOLH / AFP)

“نحتاج إلى مساعدات”
في بعلبك – الهرمل نحو 13 ألف نازح في مراكز الإيواء وحدها، ولا أرقام دقيقة للأعداد الكاملة للنازحين، غير أن عدد العائلات النازحة إلى منازل أخرى أو العالقة داخل منازلها في بلدات اتحاد بلديات بعلبك وحدها بلغ نحو 16600 عائلة، بحسب ما قال المحافظ خضر لـ”النهار”، لافتاً إلى أن المساعدات رغم أنها وصلت إلى جميع مراكز الإيواء إلا أنها غير كافية، “الدفعة الأخيرة كانت قبل عشرة أيام والآن نحتاج إلى كميات أخرى”.

والمشكلة الأكثر إلحاحاً التي طرحها خضر هي بداية موسم الشتاء الذي حلّ باكراً ومن المتوقع أن يأتي قوياً هذه السنة، وهو الذي يحمل معه الكثير من الحاجات المكلفة كالمحروقات والأغطية وغيرها: “أرسلنا كل حاجات المراكز إلى الهيئة العليا للإغاثة، وننتظر وصول الكميات المطلوبة وأهمها مواد تغطية الأرض الباردة في المراكز”.

وعن النازحين داخل المنازل، يقول إن الوصول إليهم ليس متاحاً بالشكل الكافي، بل يعتبر محدوداً جداً حتى الآن خصوصاً في الأماكن النائية. “طلبت من المبادرات الفردية التركيز على النازحين في المنازل لتغطية حاجاتهم قدر الإمكان، لكننا بالطبع لا نستطيع مساعدة الجميع لأسباب لوجيستية وقانونية وغيرها، والأمر يعود الى الجهة المبادرة”.

العدوان الإسرائيلي لم ينته بعد، وحجم الخسارة الإنسانية والمادية في بعلبك – الهرمل كما في كل لبنان لا يمكن حصره الآن بدقّة. هذا العدوان ما هو إلا تجسيد لحجم المأساة التي تعيشها المنطقة تاريخياً، وجاءت الحرب لتقطع آخر خيط رفيع كان يصلها بالخارج، وعاد أهلها كما دوماً الى مواجهة المجهول.

النهار

شاهد أيضاً

بالفيديو: تدمير مسجد طيرحرفا قضاء صور…