«منذ أن أصبح رئيسًا لمحكمة العدل الدولية في شباط 2024، قام القاضي نواف سلام بتسريع الإجراءات في قضية الإبادة الجماعية التي تقدّمت بها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، على حساب إسرائيل»، كتب الإسرائيلي الأميركي دانيال سميث في تقرير نشرته منظمة «يو إن واتش» المختصّة بالدفاع عن جرائم الكيان الإسرائيلي في الأمم المتحدة كما يتبيّن من زيارة موقعها الرسمي. وطالبت المنظمة رئيس محكمة العدل الدولية السفير اللبناني السابق بالتنحّي بسبب تصويته، خلال تولّيه رئاسة بعثة لبنان في الأمم المتحدة، على قرارات تدين الاعتداءات الإسرائيلية وتطالب بمحاسبتها بسبب خرقها للقوانين الدولية. نعرض في هذا النص أهم ما ورد في التقرير من مزاعم وادّعاءات ساقتها المنظمة بحق القاضي سلام
«كان القاضي سلام مرشحاً لرئاسة وزراء لبنان، وهو الاسم الذي طرحه حزب الله» (صفحة 5). وردت هذه المعلومات الخاطئة حرفياً في تقرير مؤلّف من 28 صفحة وضعته منظمة «يو إن واتش» في 18 تمّوز الجاري. صحيح أن سلام كان مطروحاً لتولّي رئاسة مجلس الوزراء في لبنان، لكن حزب الله لم يطرح اسمه. يبدو أن كاتب التقرير دنيال سميث لم يدقّق جيداً في المعلومات التي جمعها أو أنه قصد إيراد هذه المعلومات الخاطئة لأنها تربط سلام بمنظمة تصنّفها الولايات المتحدة منظمة إرهابية. وورد في التقرير أن سلام «بصفته سفير لبنان السابق لدى الأمم المتحدة، صوّت 210 مرات لإدانة الدولة اليهودية. وألقى عشرات الخطابات التحريضية التي اتّهم فيها منظمات يهودية إرهابية بارتكاب مجازر منظّمة»، علماً أن تصويت سلام على قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تدين الكيان الإسرائيلي لم يكن بمثابة حكم مسبق أو تجاوز لقرينة البراءة، بل كان يستند الى وقائع وخلاصات تقارير صادرة عن وكالات تابعة للأمم المتحدة، اتّبعت منهجية علمية واحترمت المعايير والأصول الأخلاقية. في معظم المرات التي صوّت خلالها لبنان على قرار يدين «إسرائيل» في الأمم المتحدة، كان الجيش الإسرائيلي يخرق قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي ويجتاح أجزاءً من جنوب لبنان ويعتدي على أهله وينتهك سيادته. ولم يصوّت لبنان ضد «إسرائيل» للهجوم عليها، بل لكفّ شرّها. «إسرائيل ملزمة كعضو في الأمم المتحدة باحترام واجباتها القانونية الدولية من خلال تطبيق القرارات الملزمة الصادرة عن مجلس الأمن وعلى رأسها القرار 194 (1948) الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم وممتلكاتهم، والقرار 242 (1967) الذي يأمرها بالانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزّة والجولان السوري المحتل، والقرار 605 (1987) الذي يشجب الممارسات الإسرائيلية التي تنتهك حقوق الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة ويطلب من إسرائيل أن تتقيد فوراً وبدقة باتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب؛ وغيرها العديد من القرارات المماثلة التي تضرب إسرائيل بها عرض الحائط. ولا بد من التذكير بأن «إسرائيل» قتلت أكبر عدد من موظفي الأمم المتحدة منذ تأسيسها، وخصوصاً في قطاع غزة وكذلك في جنوب لبنان. ولم يخف المسؤولون الإسرائيليون قصفهم المباشر لمدارس ومنشآت تحمل العلم الأزرق، ولم ينفوا قتل وخطف وتعذيب وإذلال موظفي الأمم المتحدة في فلسطين المحتلة. أما بشأن المنظمات اليهودية الإرهابية التي ارتكبت «مجازر منظّمة»، كما ذكر سلام، فيمكن تأكيد ذلك من خلال وزارة العدل الأميركية نفسها التي أوردت تقارير تؤكد ضلوع منظمات «آرغون» و«شتيرن» و«هاغانا» الإرهابية الإسرائيلية في مجازر منظّمة. كذلك أكّد بعض المؤرخين الإسرائيليين، مثل بيني موريس وأفي شلايم أن المنظمات اليهودية الإرهابية ارتكبت مجازر وحشية بحق الفلسطينيين.
تهديد بعقوبات اميركية
يحذّر تقرير «يو إن واتش» من أنه “إذا لم ينحّ نواف سلام نفسه عن رئاسة المحكمة، يجب أن يواجه عقوبات». وقبل عرض موضوع العقوبات، نشير الى أن الغالبية الساحقة من قضاة محكمة العدل الدولية (14 أو 13 قاضياً من أصل 15) صوّتت على القرارات التي تدعو الى وقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية والتمنّع عن قتل المدنيين واستهداف المستشفيات والطواقم الطبية. القرار الأول الذي طالب بذلك صدر عن محكمة العدل الدولية قبل تولّي سلام رئاستها. يومها كانت القاضية الأميركية، التي كانت موظفة في وزارة الخارجية الأميركية قبل ذلك، جوان دونوهيو تشغل مركز رئيسة المحكمة. أما القاضية الأميركية سارة كليفلاند التي انضمت الى المحكمة في شباط الماضي، فصوّتت لمصلحة وقف إطلاق النار كما صوّتت لمصلحة الرأي الاستشاري الذي يدين «إسرائيل» ويقول إنها خالفت التزاماتها القانونية (راجع ملخص الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في الإنفوغراف).
لكن رغم ذلك، دعت رسالة من الحزبَين الجمهوري والديموقراطي في 28 آذار 2024 أعضاء الكونغرس الأميركي ووزير الخارجية الأميركي بلينكن وإدارة جو بايدن إلى تقييد سفر سلام إلى الولايات المتحدة «وتطبيق عقوبات أخرى” إذا لم ينحّ نفسه عن النظر في القضيتين المتعلقتين بـ«إسرائيل» أمام المحكمة. ويشير التقرير الى أن سلام لم يرضخ لهذا التهديد «بل على العكس من ذلك، هناك أدلة تشير إلى أنه يعمل على تسريع القضيتين (شكوى جنوب إفريقيا المتعلقة بالإبادة الجماعية في غزّة والرأي الاستشاري بشأن الاحتلال الإسرائيلي) ذات الدوافع السياسية»، علماً أن لا دوافع سياسية للقضيتين، بل إن الدوافع لطلب تدخل المحكمة الدولية والهيئات الدولية ومجلس الأمن ينطلق من وقائع بشعة ومعاناة أليمة وضحايا بعشرات الآلاف واغتصاب لأبسط القواعد الإنسانية. والمطلوب بداية وقف إطلاق النار والانسحاب من الأراضي المحتلة. لا بل المطلوب بداية السماح بإدخال الطعام ومياه الشرب الى أطفال؛ من بينهم جرحى ومرضى ومعوّقون محاصرون في غزة. ومنع التجويع والتعذيب والقتل ليس ولا يمكن أن يكون مناورة سياسية.
اتهام بتسريع الإجراءات القضائية؟
في 10 أيار 2024، مع استمرار الإبادة الجماعية التي ترتكبها «إسرائيل» بحق الفلسطينيين في غزة قدمت جنوب إفريقيا طلبًا لتعديل التدابير المؤقتة. وكان ذلك الطلب الرابع الذي تقدمت به جنوب إفريقيا إلى المحكمة خلال خمسة أشهر. فقرر سلام تحديد يوم 15 أيار موعدًا لتقديم المذكرات المكتوبة من قبل الفريقين الإسرائيلي والجنوب إفريقي، ويومَي 16 و17 أيار لجلسات الاستماع الشفهية. وفي 13 أيار، طلب الوفد الإسرائيلي من المحكمة تأجيل جلسات الاستماع إلى الأسبوع التالي، حيث إن مستشارها القانوني لن يكون موجوداً في لاهاي يومَي 16 و17 أيار. رفض سلام هذا الطلب. وأصرّ على أن تنعقد الجلسات يومَي الخميس والجمعة 16-17 أيار. رفض سلام طلب تأجيل الجلسات ليس لأنه يريد تسريع الإجراءات، بل لأنه أراد تجنّب إبطائها من دون أسباب موجبة. فالوفد الإسرائيلي لم يقدم أسبابًا معقولة تبرّر التأجيل، وإن غياب أحد أعضاء الوفد لا يبرّر التأجيل في قضية تتعلق بمعاناة مستمرّة ومتزايدة بحقّ مدنيين أينما كانوا.
بدع الأدلّة «الدامغة» وروايات أخرى
يحلّل تقرير «يو إن واتش» سجلّ نواف سلام كسفير لبناني بين عامَي 2007 و2017 ويدّعي كاتبه أنه عثر على «أدلّة دامغة على أن سلام ليس حَكَماً عادلًا ومحايدًا في القضايا المتعلقة بإسرائيل أو حقوق الإنسان». وعدّد التقرير ما يزعم أنها «أبرز النتائج المتعلقة بانحياز نواف سلام ضد إسرائيل» ويقول: «خلال فترة عمله، ممثلًا للبنان لدى الأمم المتحدة، صوّت سلام لإدانة إسرائيل 210 مرات». وتضمّنت هذه القرارات «بشكل روتيني إدانات أحادية الجانب لإسرائيل، ومنحت حرية الحركة لحماس». على سبيل المثال، في كانون الأول 2008، صوّت سلام لمصلحة قرار يتّهم إسرائيل بارتكاب «أعمال إرهابية واستفزاز وتحريض وتدمير، ضد الفلسطينيين، لكنه لم يشر إلى حماس أو الجهاد الإسلامي»، علماً أن القرار الذي صوّتت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة يومها يتعلق تحديداً بالممارسات الإسرائيلية في الأراضي التي تحتلّها، ومسؤولية «إسرائيل» كقوة احتلال (الفقرة العاشرة من القرار). ولا يتعلق القرار بالوضع في فلسطين المحتلة مثلاً حتى يكون هناك مناسبة لإثارة موضوع حماس والجهاد الإسلامي.
التقرير الإسرائيلي يشير كذلك الى «قرار آخر أيّده سلام، في عام 2017، اتهم إسرائيل بالانتهاك المنهجي لحقوق الإنسان للشعب الفلسطيني»، و«التسبب في مقتل وإصابة المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال والنساء والمتظاهرون السلميون».
نشير أولًا الى أن هذا القرار صوّتت لمصلحته 153 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ويشكّل إدانة المجتمع الدولي وغالبية شعوب العالم للممارسات الإسرائيلية التي تشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. ومن الصعب التخيّل مثلاً امتناع لبنان عن التصويت على هذا القرار.
في خطاباته أمام الأمم المتحدة، أدلى سلام أيضًا بالعديد من التصريحات التي عدّها التقرير «تحريضية» و«تظهر الانحياز الشديد ضد إسرائيل». ففي خطاب ألقاه في الأمم المتحدة في تشرين الثاني 2008، قال سلام إن «القيادة الصهيونية العليا» اتّبعت خطة «للتطهير العرقي» من خلال «الإرهاب والمذابح المنظّمة». وهناك العديد من الدراسات القانونية الموثوقة التي تؤكد دقّة ما قاله سلام. في تشرين الثاني 2009، قال سلام أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إن «مجرمي الحرب [الإسرائيليين] استفادوا لفترة طويلة جداً من الإفلات من العقاب». وهذا واقع لا يمكن إنكاره، وخصوصاً في الأمم المتحدة.
ويوم استخدم سلام لغة أكثر ديبلوماسيةً ولطفاً مثل اتهامه إسرائيل عام 2011 بارتكاب «أعمال غير مشروعة»، لم يشفع له ذلك لدى جماعة «يو إن واتش» التي اتهمته بالانحياز. لكن في التقرير نفسه الذي نشر في 26 تموز 2011، أشار المنسق الأممي لعملية السلام في الشرق الأوسط، ممثل الأمين العام للأمم المتحدة روبرت سيري إلى أن «هذا الاحتلال غير القانوني ما زال مستمرًا بلا هوادة في انتهاك للقانون الدولي»، مذكّرًا بأن المستوطنين الإسرائيليين، في الشهر الماضي وحده، «شجّعوا بشكل واضح الاتجاهات المتطرفة لحكومتهم، وقاموا بأكثر من 139 هجومًا إرهابيًّا ضد المدنيين الفلسطينيين».
تابع كاتب التقرير الإسرائيلي تعداد خطابات السفير سلام قبل تولّيه رئاسة المحكمة، ظنًا منه أن فيها ما يدفعه الى التنحّي أو يدفع المحكمة الى تنحيته. زعم أنه في 13 حزيران 2014، «اتهم سلام إسرائيل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب». كان سلام يتناول يومها جرائم يرتكبها مستوطنون بحق الفلسطينيين في تجاوز واضح للاتفاقات الدولية بشأن الضفة الغربية. ونشير في هذا السياق الى أن الولايات المتحدة نفسها فرضت عقوبات على المستوطنين بسبب تجاوزاتهم. كما نشير الى أن وزراء خارجية مجموعة السبع انضمّوا إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في مطلع الشهر الجاري لإدانة قرار الحكومة الإسرائيلية الشهر الماضي بإضفاء شرعية على خمس بؤر استيطانية في الضفة الغربية، وقالوا في بيان مشترك إن ذلك «يتعارض مع القانون الدولي» (الغارديان 11 تموز 2024).
رفض سلام طلب تأجيل الجلسات ليس لأنه أراد تسريع الإجراءات بل لأنه أراد منع إبطائها من دون أسباب موجبة
في 18 حزيران 2014، اعترض سلام على ترشيح «إسرائيل» لمنصب نائب رئيس اللجنة الرابعة للجمعية العامة، على أساس أنها «الدولة الأكثر إدانة» في الجمعية العامة. وقال سلام إن إسرائيل ليست مؤهلة للترشح «لأيّ منصب» في الأمم المتحدة. وفي مناسبات عديدة، اتهم سلام إسرائيل بممارسة «الأبارتايد» في فلسطين المحتلّة (الأبارتايد أي التمييز العنصري يعدّ جريمة ضد الإنسانية بحسب القانون الجنائي الدولي).
ورد في التقرير أن نواف سلام اتّهم (عام 2016) إسرائيل باستخدام «الأسلحة الأكثر شراسة ومثيرة للاشمئزاز على الإطلاق» خلال عدوانها على لبنان عام 2006 و«لم يدن حزب الله لشنّه الحرب، أو لمهاجمته المدنيين الإسرائيليين بآلاف الصواريخ. بل على العكس من ذلك، قلب سلام سبب الحرب، فكتب كذبًا أن إسرائيل هي التي شنّت حرباً دامت 33 يوماً». حزب الله شنّ عام 2006 هجوماً على هدف عسكري محدّد في منطقة لبنانية حدودية يحتلّها الجيش الإسرائيلي ولا يوجد فيها مدنيون. هدف الهجوم كان أسر جنود إسرائيليين لمقايضتهم لاحقاً بأسرى لبنانيين يعتقلهم الإسرائيليون ولم يكن الهدف شن حرب شاملة أو استهداف المدنيين. وبالتالي إن ما قاله سلام دقيق حيث إن الجيش الإسرائيلي هو الذي بادر إلى قصف المدنيين والمنشآت المدنية في العمق اللبناني وليس حزب الله.
الاخبار