كتب طوني عيسى في الجمهورية
على رغم أنّ الأطراف جميعاً يفضّلون الدخول في تسويات سياسية لا في مواجهات في الجنوب اللبناني، إلّا أنّ ثمّة مؤشرات ظهرت في الأيام الأخيرة لا تخلو من القلق. ويتحدث البعض عن ملامح اهتزاز للضوابط السائدة هناك منذ العام 2006.
للمرة الأولى ربما، منذ صدور القرار 1701، قرر الإسرائيليون تجاوز الخط الأحمر جواً في لبنان، وأرسلوا طائراتهم الحربية لتنفيذ أهداف قتالية وراء خط الليطاني، فأغاروا على مواقع في مليتا- مليخ، وفي بقعة جباع- بصليا- سنيا، في إقليم التفاح- جزين. وهذه المناطق لم تصل إليها الغارات منذ انفجار الحرب في غزة.
بل، على مدى 17 عاماً، بقي الإسرائيليون يستهدفون مواقع «حزب الله» وإيران خارج الحدود اللبنانية. فهم يشنّون الغارات بطائراتهم الحربية على مناطق في سوريا، ويستهدفون على ما يقولون إنه شحنات سلاح أو ذخائر آتية من إيران إلى «الحزب» في لبنان. لكنهم إطلاقاً لم يستهدفوا هذه الشحنات أو مستودعاتها في الداخل اللبناني.
وهذا ما يؤكد وجود خط أحمر جوي متّفق عليه بين إسرائيل والقوى الدولية، يقضي بجعل الأمن في لبنان تحت رعاية أممية، من خلال قوات «اليونيفيل» التي جرى تدعيمها في العام 2006 لتصبح أكثر قدرة على الفعل.
والهدف الغربي الضمني من تدعيم «اليونيفيل» كان التحضير لتوسيع نطاق عملها، بحيث تشمل أيضاً مناطق الحدود الشرقية مع سوريا. ونَص القرار 1701 يتيح هذا الاجتهاد.
لكن الفرصة لم تسمح للغربيين وإسرائيل بهذا التوسيع، إذ تصدى «حزب الله» للمحاولة بكل الوسائل. ولكن عندما بدأ «الحزب» يستخدم جبهة الجنوب لإشغال القوات الإسرائيلية عن غزة، وجد الإسرائيليون أنّ فرصتهم سانحة لاستثمار القرار 1701 إلى أقصى حد ممكن، بل لتعديله كي يصبح أكثر فاعلية.
وهذه هي الرسالة التي جاءت بها وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا من إسرائيل، مُرفقة بالتلويح بسحب يدها من الملف، إذا رفض الجانب اللبناني التزام القرار الدولي. وفي هذه الحال، فليتدبّر لبنان أمور الجنوب بنفسه. ويتردد أن الفرنسيين ذهبوا إلى حد التلويح بسحب جنودهم من «اليونيفيل»، إذا لم تحترم الأطراف كافة التزامها بالقرار 1701، لأن ذلك سيعرّض هؤلاء الجنود للخطر.
المتابعون يتحدثون عن ارتفاع مُستجد في سخونة الوضع جنوباً، يترافق مع توتر واضح في العلاقات بين باريس و»حزب الله». فبعد الحملة السياسية والإعلامية العنيفة التي شنّتها الأوساط القريبة من «الحزب» على باريس، أطلق الرئيس إيمانويل ماكرون توصيفاً مستفزاً لـ»الحزب»، إذ اعتبره «منظمة إرهابية على غرار «حماس». وهذا يعني أن خطوط الاتصال التي امتدت بين الطرفين، على فترة دامت أكثر من عام، وتخللها توافق حول ملف رئاسة الجمهورية، هي اليوم معطّلة. وهذا يعني أن الوساطات للحفاظ على سقف منخفض من التوتر في الجنوب متوقفة، ما قد يضع الجنوب أمام تطورات غير محسوبة. وهو ما سبق للفرنسيين أنفسهم أن حذّروا منه وتَبلّغته قوى سياسية داخلية، بينهم الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.
وما يدعم هذه المخاوف هو أنّ مساعي التهدئة في غزة تتعرض للفشل، وأنّ الجميع هناك يستعد لاستخدام ما يملك من أوراق لترجيح الكفة لمصلحته. كما أن المناخات الإقليمية المواكبة تزداد سخونة، خصوصاً مع دخول الحوثيين في الخليج العربي على خط المواجهة. ففي هذه الأجواء، يصبح التفجير في الجنوب مسألة واردة في أي لحظة.
فصحيح أنّ «حزب الله» يفضّل التسوية لا الحرب في الجنوب، وهذا أمر محسوم لديه. لكن الاتجاهات في إسرائيل ليست محسومة. فهناك من يقول انّ تنفيذ القرار 1701 كافٍ لإبعاد «الحزب» عن الحدود الشمالية، لكن هناك من يذهب إلى المطالبة بالاستفادة من الظرف الدولي لفرض تنفيذ القرار 1701 بعد تنفيذ ضربة قوية في لبنان تؤدي إلى إضعاف «الحزب» وإبعاده عن الحدود، بحيث يصعب عليه القيام بتهديد إسرائيل بعد فترة معينة، على غرار ما فعلت «حماس».
هذا يعني أن قيادة بنيامين نتنياهو يمكن أن تقوم في لحظة سياسية مؤاتية، داخلياً ودولياً، بتفجير الوضع على الحدود مع لبنان، اعتقاداً منها بأن ذلك يفرض على اللبنانيين، و»حزب الله» تحديداً، أن يقبلوا بخيارات يرفضونها.
وثمة من يقرأ ملامح توسيع إسرائيل لدائرة ضرباتها الجوية إلى ما بعد خط الليطاني بأنه رسالة إلى المعنيين مفادها أنّ الخطوط الحمر قد سقطت أو على وشك السقوط، وأنّ هذه هي الملامح الأولى للسيناريو المقبل.