كتب هشام أبو جوده في اللواء
قبل مائة وست سنوات، في 2 تشرين الثاني 1917، وُعِدَ « اليهود-الصهاينة» بوطن لهم في فلسطين، وكلمة وطن تحمل في ما تحمله من مضامين معنى المكان الآمن.
قبل خمسٍ وسبعين سنة، أي سنة 1948، تم تطوير الوعد بحيث أفضى إلى إنشاء دولة لليهود، محتلةٍ آمنة.
وبعد ذاك، خاضت الدولة المحتلة هذه ثلاثة حروب كبيرة (1956، 1967، 1973) تم خلالها توسيع الحدود الآمنة للوعد وتثبيتها، فنشأ في عقل المحتلين ونفسيتهم اطمئنان وشعور بالأمان، فضلاً عن إحساس بالتفوق.
بعد حرب 73، انتقلت دولة الاحتلال من تثبيت حدودها الآمنة الى توسيعها، حدوداً مفتوحةً، على حساب الآخرين؛ فقامت بشن الحروب على المجتمعات الأخرى، وهي حروب خارج «حدودها»، وفي داخل كل دولة من دول العالم العربي.
مرة ثلاثة وثلاثين عاما كانت حدود الوعد الآمنة غير قابلة للاختراق، فهي محمية بـ«الجيش الجبار الذي لا يقهر»، بل إن بعض التهديد للحدود، أو ما بعدها، أدى الى اجتياح لبنان واحتلال قسم منه وإقامة شريط حدودي للحماية.
مع معركة تموز 2006 مع المقاومة في جنوب لبنان، تخلخلت الحدود الآمنة، وتبين أن المسافات والمواقع على شريط شائك لا يمنع الصواريخ من العبور وضرب الجبهة الداخلية، وأن ما كان يجري سابقاً من نقل للحرب إلى عند الآخرين صار لا يجدي نفعاً؛ ولكن الاطمئنان والشعور بالأمن والأمان بقيا غير مهتزَّين بشكل جوهري، إذ استمرت الحرب على المجتمعات قائمة بالطرائق والوسائل كافةً، في لبنان والعراق وسوريا.
سبعة عشر عاماً بين تموز 2006 وتشرين 2023، تعايش العدو خلالها مع توازن الرعب على الجبهة الشمالية، وكان كسر هذا التوازن دونه حرب كبرى فارتفع معدل الاطمئنان والشعور بالأمن.
وإذا بالسابع من تشرين الأول 2023 يأتي فيمحو وعد الأمن والأمان. ما اخترق خلال الساعات الثلاث الاولى للمعركة لا جدار الفصل فحسب، بل الشعور بالأمن، وأسقط لا المواقع والمستوطنات فقط، بل أيضاً الاطمئنان الذي سمح لهم بإقامة احتفال غنائي على بعد صفر مسافة من غزة- المعتقل المفتوح.
ما جرى لا يمكن احتسابه بعدد القتلى وعدد المهاجمين وعدد المواقع، بل فقط بنتيجته الوحيدة، وهي إسقاط الوعد بملاذ آمن ودولة آمنة، وتبخّرُ الشعور بالأمن والطمأنينة. إنها نتيجة نهائية لا إمكان البتة لإرجاعها ولا قدرة عليه، أو لإعادة بنائها في عقل المحتلين الصهاينة وشعورهم، حتى لو تم ارتكاب اكبر هولوكوست في حق الشعب الفلسطيني كما يجري منذ أربعة اسابيع في غزة والضفة حتى اليوم.
وكما سقط الشعور بالأمن، سقطت معه أيضاً حجة الهولوكوست والوعد بعدم تكراره مطلقا. لقد استفاق العالم اليوم على هولوكوست جديد ترتكبه عصابات الصهاينة الإسرائيليين والصهاينة الجدد، الأميركيين والأوروبيين، بحق الفلسطينيين، حتى أن المتظاهرين اليهود في نيويورك رفعوا شعار «عدم تكرارها مطلقا للجميع» («never again for all»)، فسقطت حصرية الحجة وحصرية الضحايا.
ومثلما سقطت الدولة الآمنة وسقط الهولوكوست، سقط معهما كل إمكان الحياة لهذه الدولة مع شعوب المنطقة، الذين كانوا قد صدقوا أكاذيب السلام والتطبيع والتعاون، وإذا بهم أمام دولة دموية أعلنت احقيتها بقتل الآخرين لأنها تعتبرهم أدنى رتبة وأقل من الحيوانات.
بعد مائة وست سنوات، انتهى وعد بلفور في بحيرة من الدم، وسقطت وعوده الى غير رجعة، والأهم اليوم أن يقتنع أصحاب الوعود السابقون واللاحقون من أوروبيين وأميركيين، أنه لا مكان في التاريخ لإعادة ترميم المفاهيم عندما تسقط، ولا إمكان لبقاء «إسرائيل» كما حاولوا فرضها، فعليهم ألا يكرروا أخطاء التاريخ بالذهاب الى هولوكوست كبير في المنطقة، سيكون ضحاياها الأوائل أصحاب الوعد والموعودون.